Mujtamac Madani Wa Thaqafat Islah
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية للفكر العربي
Genres
ثمة سؤال ثقافي اجتماعي يلح كثيرا على الأذهان: إذا كان التغيير والتطوير استجابة مجتمعية ردا على تحديات، فلماذا الإنسان المصري يتصف بضعف رد الفعل إزاء التحديات الحضارية في الداخل والخارج؟ ويتطور السؤال أحيانا: لماذا المجتمعات العربية لا تحركها أحداث جسام مثل هزيمة عسكرية أو احتلال أرض أو تفوق خصم علميا وتكنولوجيا بينما تثور غاضبة هائجة عند وقوع حدث يمس شيئا له القداسة مثل الاعتداء الصهيوني على المسجد الأقصى؟ وسبق أن قال المقريزي: «قال الرخاء: إني راحل إلى مصر، فقال الذل: وأنا معك»، وتكرر مثل هذا المعنى على لسان آخرين.
ولكنني إذ أرفض السؤال على هذا النحو أرى أن أصوغه على النحو التالي: ماذا حدث للإنسان المصري على مدى قرون من التاريخ قاربت ألفين وخمسمائة عام ليصبح على حاله الذي هو عليه الآن؟
السلوك الإنساني وشكل فعالية الإنسان والاستجابة الاجتماعية، جمعية أو فردية، أمور يصنعها واقع الحياة في التاريخ، أو بمعنى آخر: الثقافة الاجتماعية الحاكمة للسلوك نتاج تفاعل أيكولوجي يشمل البيئة وطبيعة التعامل معها لإنتاج الوجود ، ويشمل العلاقات بين الناس، والعلاقات مع الحكام ونظم الحكم، ويشمل الصراعات مع الخصوم والأعداء والطامعين، ويترسب حصاد هذا كله في صورة ثقافة، أي شكل من أشكال التكيف والرؤية تعبر عنه أقوال مأثورة وأمثلة عامية هي حكمة المجتمع المستخلصة من واقع حياته، ويتجلى سلوكا فرديا وعاما، والثقافة بهذا المعنى آلية تكيف قصد امتلاك أو اقتناص فرصة للبقاء.
وإذا تأملنا تاريخ مصر منذ غزو الفرس في القرن الخامس قبل الميلاد نجد أن مصر عاشت طوال هذا التاريخ حتى منتصف القرن العشرين خاضعة لحكام غزاة رعاة أجانب استنزفوا خيراتها ونزحوها إلى بلادهم في الخارج، ودمروا مؤسساتها التعليمية والعلمية والدينية المقامة في صورة معابد، وسام الحكام الإنسان العام المصري سوء العذاب والإفقار والتجهيل، أصبح المصري منذ هذا التاريخ غريبا على أرضه ليس له الحق في المشاركة برأي أو كلمة، وإنما عليه الطاعة في خوف، وأن يعمل كادحا لينتج ما لا نصيب له منه، وعاش المصري - الفلاح المصري - فيما يشبه المعزل العنصري، كسر محمد علي جدار هذا المعزل ليستخدم الفلاحين جنودا، وخرج من بينهم أحمد عرابي ورفاعة الطهطاوي.
أذكر هنا أن جمال الدين الأفغاني أرقه هذا الوضع في مصر وهو يحرض على الثورة، وشاء له أن يذكر المصريين بأمجادهم وتاريخهم باعتبارهم صناع حضارة، وهذه هي الأمور التي عمد الغزاة والطغاة والحكام المستبدين إلى طمس معالمها لكسر النخوة الوطنية، وتجريد المصري، ليسلس قياده، من أسباب الاعتزاز بنفسه، ومن أية قدرة على التحدي أو إمكانية استعادة ذاتيته بوصفه صاحب حق في حياته وفي أرضه وبناء مستقبله باختياره.
وقال جمال الدين الأفغاني في هذا الصدد: «إنكم معشر المصريين قد نشأتم على الاستعباد، وتربيتم في حجر الاستبداد، تناوبتكم أيادي الغاصبين من الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد والمماليك، وكل منهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، ويهيض عظامكم بأداة عسفه، ويستنزف قوام حياتكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم، بالعصاب والمقرعة والسوط، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل ممفيس وآثار طيبة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وأجدادكم، هبوا من غفلتكم، واصحوا من سكرتكم، عيشوا مثل باقي الأمم أحرارا، أو موتوا شهداء، وأنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض بفأسك لتستنبت ما يسد الرمق، لماذا لا تشق قلب ظالمك؟»
نعم هناك تاريخ صامت لثورات المصريين، وهبات هنا وهناك ضد الغزاة الطغاة، ولكن التاريخ ينطق عادة بلسان الحكام محليين أو غزاة ويصمت عن سواهم، وابتدع المصري آلية ثقافية تكفل له فرصة البقاء وهو المغترب على أرضه، تمثلت هذه الآلية في الهجرة إلى الغيب التماسا للسلامة والعزاء، وقد تكون الهجرة بعيدا عن وادي النيل إلى بطن الصحراء، وقد تكون توحدا ظاهريا مع الغاصب المعتدي: «إيد تبوسها وعايز تقطعها»، «وإن كنت في بلد تعبد العجل حش وارميله»، وقد تكون انطواء على النفس ودعاء إلى الله وموالا مشحونا بالأنين يفرغ فيه أحزانه وأشجانه في عتمة الليل، ولكنه في الحالين أعزل ومعزول فاقد الحيلة.
خلق هذا المناخ وبيئة الاستبداد وفقدان الحيلة على مدى القرون الطويلة ثقافة جامعة بين النقيضين على قدر الحال، ثقافة تجمع بين الغضب الصريح من بطش الحاكم وتمني هزيمته أو كتمان الغضب كرها، والاستسلام لحكم القوي على الضعيف، ورسخ هذا الوضع ثقافات الردة والماضوية والاكتفاء بالدعاء على الظالم، والتحليق في فراغ الخيالات.
وهكذا تحول المجتمع المصري إلى نثار، تجمع سكني دون انتماء، وتراث ثقافي موروث في صيغة أسطورية؛ ذلك لأن العقل الجمعي تخلقه فعالية جمعية، وبرزت على السطح مأثورات الانطواء والسلبية واللامبالاة، وكم هو عسير - إن لم يكن من المستحيل - بناء نهضة بإنسان لا منتم أو إقامة مجتمع علمي أو حضارة علم وتكنولوجيا قوامها الإبداع المنهجي المنظم وسط تجمع بشري لا يعرف النظام وإنما تسوده فوضى، وتحول الإنسان المصري بسبب الاستبداد الممتد والاغتراب المفروض قسرا، ناهيك عن فساد الإعلام والتعليم والتراتبية الهرمية الاجتماعية التي لا تعتمد الكفاءة لصالح المجتمع معيارا أوحد، تحول الإنسان المصري بسبب هذا إلى كائن حي وليس فعالية، وتحول إلى غريزة منفلتة، طموحه المتاح هو أن يبقى على قيد الحياة لا أن يبني مجتمعا لا ناقة له فيه ولا جمل.
ولكن هذا الواقع الممتد تاريخيا لا يعني أبدا أن ثقافته تعبير عن تكوين جبلي، كما زعم المقريزي، إذ كانت شعوب الأرض في ظل النظم العبودية قديما على هذه الصورة، هكذا كان الأوروبيون قبل التنوير وفي ظل محاكم التفتيش، وهكذا كان الصينيون قديما، ويؤكد العلم أن الإنسان تحكمه ثقافته الاجتماعية، ولكنه أيضا هو الخالق لثقافته، ومن هنا كانت دعوة حركة التنوير في أوروبا إلى ثقافة مدنية للمجتمع المدني لصوغ المواطنة المدنية وبناء المواطن المدني المؤمن بالحرية والعقل والمساواة وصاحب الفعالية العقلانية والذي ساهم في بناء المجتمع المدني والحفاظ عليه، ولهذا يتعين النظر نظرة نقدية إلى ثقافتنا وعلاقتها بالتغيير والتطوير، وصولا إلى ثقافة جديدة لا تحفز إلى ردة ولا إلى تقليد بل إلى فعل إبداعي عصري تضعنا أندادا لأهل التقدم، وهكذا روح المصري الثائرة المتمردة ثاوية في أعماقه، طواها بين جوانحه خوفا من البطش والاستبداد، وقناعة بالدعوات والكلمات أو النكات، ولكنها تنطلق عارمة مدمرة في لحظات الهبات والانتفاضات وكأنها تنتظر قوة تنظيمية حرة هادفة لتكون قوة بناء منهجي لخير الجميع.
Unknown page