Muhawarat Alfred North Whitehead
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
Genres
قلت: «إننا لم نبلغ مرحلة النقد لأنفسنا إلا أخيرا فقط، وربما كنا مبالغين فيه.
ولكن لماذا شاعت في كتبنا الشعبية نغمة الغضب والمرارة والحنق، في الوقت الذي زاد فيه توفير الراحة عن أي وقت سابق أو لاحق، من عام 1919م إلى عام 1929م؟ ألا تذكر أي أثر أليم تركه ذلك؟ هل كان ذلك راجعا إلى تبديد أوهامنا بشأن الحرب، أو إلى إحساسنا بعجزنا السياسي المؤقت؟ لقد وصلت الرفاهية إلى أوساط الصفوف الدنيا من الطبقة الوسطى أو إلى بيوت العمال على صورة راديو، وعربة رخيصة، ومظلة من الجلد للمصباح، وستائر كريتون، وكرسي وثير، وأجهزة منزلية توفر العمل. فهل يرجع سبب الغضب إلى أن الراحة والفراغ قد توفر لأناس لم يتدربوا على استغلالهما، ثم حرموا منهما قبل أن يتعلموا طريقة استخدامها؟»
وقال بري لكي يستفزني: «إنهم كانوا يتطلعون إلى وقت تزداد فيه أسباب راحتهم المادية وكانوا دائما يترقبون هذه النعمة التي لم تتحقق، فبقوا ساخطين.»
وقالت مسز هوايتهد: «أنتم مستعجلون جدا، لم ينقض من تاريخكم سوى ثلاثمائة عام، وقد انقضى من تاريخ أوروبا ثلاثة آلاف.» - «ولكن الإغريق في حضارتهم لم ينقض على تاريخهم سوى ثلاثمائة عام.»
وهنا تدخل هوايتهد قائلا: «نعم، ولكنهم لم يعبئوا إلا قليلا جدا بمصر وفارس، ولعلك لاحظت ذلك. حقا لقد اقتبسوا بعض مبادئ الحضارة من كريت وميسيني وآسيا الصغرى، وقليلا من مصر، ولعلك تذكر أن رجال الدين المصريين في قصة أفلاطون كانوا يقولون لصولون: «أنتم الإغريق لستم إلا أطفالا.» أردت أن أقول إنهم صنعوا حضارتهم بأنفسهم، وكانوا - كالأمريكان - على درجة من العنف، وإني لأتخيل المصريين والفرس يقول بعضهم لبعض: أليس من المؤلم أن يرتكب كثير من جرائم القتل في اليونان؟ لا بد أن يكون المجتمع هناك غير آمن إلى حد مزعج، بيد أن جرائم القتل لم تعترض إنشاء المدنية. إن أكثر الأماكن التي زرتها شبها باليونان - فيما أتخيل - هو اجتماع للعلماء الجامعيين في شيكاغو! كانت المدينة فوضى ولكنها تزخر بالحياة. لم يدرس الإغريق خير النماذج التي يمكن الحصول عليها خارج بلادهم، كانوا يصنعون نماذجهم بأنفسهم. وذلك في ظني أقصى ما يستطيع امرؤ أن يصنع مما يكون له صفة إغريقية. أما عن قيمة دراسة اللغة في أصولها، فإني أعتقد أننا نستطيع أن نستمد من الترجمات أكثر ما فيها من مميزات، ولقد قرأت العهد الجديد في أصله وأنا شاب ووجدت اليونانية - كلغة - لا تستحق التقدير، وأفضل منها بكثير الترجمة إلى إنجليزية أوائل القرن السابع عشر. إن تسعين في المائة من هيرودوت العزيز يمكن الحصول عليه من الترجمة، وكذلك ستين أو سبعين في المائة من ثيد سيديد، بل إن أفلاطون المقدس ذاته لا يفقد الكثير في الترجمة، ولقد قمت بتدريس كثير من خير محاوراته لفصول متتابعة من الطلبة، وكثيرا ما سألت نفسي: أية قيمة لما تحتويه من آراء تبرر الجهد الذي يبذل في سبيل تعلم اللغة؟ وبعدما انقضى الآن أربعون عاما منذ كنت أقرأ اليونانية بطلاقة، أتناول ترجمة لوب التي تعرض الترجمة الإنجليزية في صفحات مقابلة، وبمعاونة معجم ليدل وسكوت أستطيع بوجه عام أن أبين في أي المواضع يعرض جوت نفسه للسخرية، وذلك تقريبا مرة في كل جملتين.»
واعترضت زوجه طلاقته المتدفقة بقولها: «هذا من عمل أكسفورد يا عزيزي أولتي كما تعرف!»
وفي خضوع لزوجته خفف من حدة نغمته في الكلام وقال: «أجل، يا عزيزتي، إن ما قصدت إليه، هو أن أبدي شكي فيما يعود من فائدة للطالب المتوسط من إمعان البحث في دقائق المعنى من الأصول. إن اليونان أنفسهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك، وحينما يقول لي دارسو الإغريقية: نعم، ولكن ما عناه مؤلفنا حقا هو ... فإنهم لا يعاونون بذلك على ظهور الفكرة. إنهم يقولون إن أية طريقة أخرى لا تتفق وزماننا، ولست على يقين من ذلك، ولكنني أرى أن طريقتهم هي التي لا تتفق وزماننا. إن هذا التقيد بالتقليد الذي ينظر إلى الوراء إنما جاء في عصر النهضة، ولم يكن من صفات اليونان، وقد عانى قسم الفلسفة الذي أنتمي إليه كثيرا من ذلك بصفة خاصة؛ ومن أجل هذا حاولت أن أخترع مصطلحات جديدة للأفكار الجديدة. إن للتفكير رطانة تعترض سبيل التفكير نفسه، ولا يقل ذلك في مساوئه عن رد الفن الأمريكي إلى الآثار القديمة. كان الأمراء في عهد التصوير العظيم إبان النهضة يشترون الصور التي كانت ترسم في ذلك الحين، ولم يشتروا الصور التي رسمت منذ قرون، ولو أن أصحاب الملايين عندكم لم ينفقوا أموالهم في جمع روائع الفن لكبار الأساتذة، وإنما أنفقوها على الصور المعاصرة، لانتعش الفن في أمريكا. إن جوهر الحياة عندكم هنا في أمريكا هو أنكم لا تتطلعون إلى الخلق وإنما تتطلعون إلى الأمام. إذا كان تاريخ الفن هو كل ما تريدون إذن لكان مرجع الفضل كله إلى أوروبا. أما إذا كنتم تريدون إبداعا يتطلع إلى الأمام وجب عليكم أيها الأمريكان أن تعتمدوا على أنفسكم، وإليكم سوف يرجع الفضل كله.»
وساورني شك خفيف في أن الفيلسوف الطيب كان يميل قليلا إلى الاتجاه الآخر كي يوازن ما عندي من فرط الحماسة للهلينيين، بيد أن اشتغالي باستيعاب هذا الدرس في صدري صرفني عن هذا الشك، وتبادلت معه الفكاهة، وكان يتحدث مع بري عن المعركة التي دارت في أحد اجتماعات الكلية بشأن الاستفتاء عن ضرورة اللاتينية لدرجة البكالوريوس في الآداب، واجتذب سمعي بغتة اسم «راند»، وهو إدوارد كنرار راند، الأستاذ البابوي للاتينية في جامعة هارفارد الذي عرفني بلايفي وهوراس إبان الدراسة بالجامعة.
وذكر بري: «إن كن راند هو الذي ألقى الخطبة الرئيسية دفاعا عن ضرورة اللاتينية، وكانت خطبة قيمة، وفق فيها إلى الحجج الصحيحة، وكان فكها في مواطن الفكاهة.» ثم وجه إلى هوايتهد قائلا: «وبهذه المناسبة، لقد كان لك ضلع في هذه المعركة.» - «أنا؟» - «نعم، فقد اقتبس في حديثه بحرية من إحدى مقالاتك في «أهداف التربية».» - «إذن فهو لم يقتبس كل نقاطي، فليست كلها في جانب رأيه.» - «من هذه النقاط ما يكفي لتعضيد رأيه، حتى منينا بالهزيمة المنكرة في صفوفنا يا ألفرد، وكان من بين الأعضاء عدد كبير لم يتكلم طويلا، ولكن لما لجئوا إلى التصويت - ومنهم شباب ما كنت تتوقع أن ينضموا إلى هذا الجانب من الرأي - صوتوا مع راند، ومعك.»
فقال هوايتهد: «هذا أمر يدعو إلى العجب، إنها محاضرة ألقيتها منذ عدة سنوات.»
Unknown page