مشيت في جزيرة لا أعرفها ولا أعرف إن كانت هي نفسها التي وصلتها سابقا أم لا، فلست أرى جذوعا ولا ثمارا ولا صوت ناي، وبعد ساعة من حياتي أنفقتها في المشي وصلت إلى المرأة الثلاثينية مجددا.
بدأ الأمر أنني سمعت صوتها تحكي مع إحداهن، واستطعت أن ألتقط بعض الكلمات قبل أن أصل إليها. كانت تقول لإحداهن أنها تعفنت، وقالت أيضا: «ستزولين ككل باطل زائل .. ولكن ماذا بعد الفناء؟»
ولم أسمع أكثر من ذلك .. وهل كنت بحاجة لأكثر من ذلك حتى أشعر بالريبة والخوف من تلك المرأة الغريبة؟ .. الحقيقة أن المشهد الذي شاهدته لا يقل غرابة عن الصوت. فلم أجد الأخرى التي كانت تحدثها، أما هي فكانت تقف في منطقة مرتفعة إلى الأعلى مني، وإلى الأسفل منها صخرة تحجب عني رؤية التفاصيل، وبجانبها ثمة شجرة باسقة تتدلى من أحد أغصانها ضفيرة صفراء حادة كما الشمس، تمتد الضفيرة إلى الأسفل بحيث تتوارى في نهايتها وراء الصخرة، وتبدو الضفيرة مشدودة إلى الأسفل بحيث ينحني الغصن ولم ينكسر. وبدا واضحا إلى حد اليقين أن تلك الضفيرة كانت منذ أيام قليلة تشكل امتدادا لشعر المرأة المقطوع.
اقتربت خطوة لأفهم إلى أين تمتد الضفيرة، فإذ بي أشتم رائحة نتنة تهبط من الأعلى، وهنا امتزجت الغرائب الثلاثة؛ الصوت والصورة والرائحة، وشكلت في داخلي شعورا واحدا غريبا حفز فضولي لأفهم ما الذي يحدث، فاقتربت أكثر وأنا أهم بالصعود إلى الأعلى، فأسرعت المرأة إلى الصخرة واضعة كفيها على أطرافها وصاحت في وجهي: خطوة أخرى كفيلة بأن أحطمك بدفعة بسيطة من يدي لهذه الصخرة!
تسمرت ولم أجبها بشيء، فرمقتني قليلا وواصلت: أستطيع ذلك .. أجل .. أنا أستطيع أن أدفع الصخرة، ألا تصدق؟
أخذت خطوة إلى الوراء؛ فقد بات واضحا لكم أنني لا أريد أن أموت، وها هي ذي تهددني بحياتي كما فعلت في السابق، إنها ترفضني قولا واحدا كما فعلت في السابق، هي لا ترفضني لشخصي بل ترفض أن يشاركها في الجزيرة أحد، أي أحد. وهي صادقة أشد الصدق في تهديدها لي، وقد بدا ذلك واضحا في وضعية جسدها وملامح عينيها المكتظة بالافتراس، وقد باتت تشبه قطة حشرت في ركن ضيق وتخبئ خلفها صغارها، فيما تحدج المعتدي بنظرة تملؤها الشراسة. أما أنا فلم أعتد على أحد، ولست أعرف إن كانت تخبئ عزيزا كصغار القطة وراءها، وتستعد لأن تقتل لأجله أم أنها محض مجنونة. كل ما أعرفه أنها قطعت بالسبيكة ضفيرتها وعلقتها ولكن ما شأني أنا؟ فلست أطمح بعد الآن أن أعرف أي شيء عنها .. أريد أن أحيا وحسب .. وهي قادرة على قتلي؛ فإن كنت أنا الضعيف والعاجز قد تمكنت ذات لحظة انفعالية بأن أقتل، فكيف بها وهي التي تعرف أكثر من أي أحد في الكون كل شبر من هذه الجزيرة .. حتما تستطيع قتلي. - ما خطبك؟
قالت وهي تحافظ على وضعيتها الهجومية فعدت خطوات أخرى إلى الوراء حتى أصبحت في مأمن من صخرتها، وحينها تملكتني نوبة لا بأس بها من الجسارة، وقلت لها بأنني لم أرحل عن الجزيرة ولن أفعل؛ فليس من حق أحد أن يستولي على ما هو مشاع، أخذت نفسا من الصمت وأردفت: لن أجازف بحياتي مرة أخرى؛ فأنا أرفض الموت .. لن تقتليني، أتسمعين؟ لقد نجوت مرارا من الموت ولن أعطيه فرصة أخرى للتمكن مني .. سأبتعد عنك الآن، ولكن دعيني وشأني.
لم أكن أريد ذلك البتة .. كثيرة هي الأشياء التي لم أكن أريدها، حلمت بأن أصل اليونان بدون شقاء وألتحق بزوجتي، وهناك سنعيش معا، وننجب ما يكفي لأكون ربا لعائلة كبيرة وممتدة. أما إن لم أستطع فكان يكفي أن أمارس وجودي هنا مع امرأة جميلة لولا شعرها المقطوع، ومن يدري فقد يصبح جزءا من جمالها! أما الآن وبعد أن اصطدمت بالخطر في البحر وهنا، فلم يكن مني إلا أن أحتفظ بحياتي وأنجو، ابتعدت وأنا أقول لها: سأرحل بهدوء عن هذه البقعة وأجد لنفسي مكانا آمنا أعيش فيه .. صدقيني لن أزعجك.
ما لبثت أن أدرت ظهري حتى أوقفتني منادية: سآتي معك.
3 «وماذا تفعلين هنا؟» سألتها، فأجابت: «أنتظر زرياب.»
Unknown page