عدت إلى سطوح بنايتي، وقفت طويلا على الحافة، الحق أنني لم أجد طريقة أخرى للانتحار؛ فأنا لا أعرف أيضا كيف يموت الناس! نظرت إلى نوافذ البناية وكانت مشرعة وفيها ضوء ما، فكرت أنني لو قفزت الآن لسوف ألمح حياة الآخرين الذين يتمسكون بتفاصيلها الصغيرة، أما أنا فلست أمتلك أي تفصيل جدير بخسارته.
موتي سيكون مجرد «لا شيء» في ذاكرة أي شخص، كما أن الطقس قد بدأ يختلف، لم يعد رائقا .. يبدو أنه لم يعد مناسبا للانتحار أو هكذا أخدع نفسي.
في الغد سوف أنتحر ولكن قبل ذلك سأفعل أي شيء، سأجعل لي ذاكرة ما عند أحدهم؛ فالحياة تصبح جديرة بالموت عندما أدرك أنها جديرة بالحياة. •••
يبدو أن الطقس جميل جدا هذا الصباح، قد يكون أنسب صباح للانتحار .. الآن وبعد خمس سنوات على تلك المحاولة الأولى، حتما، سأفعل شيئا ذا أهمية بقدر الانتحار.
حالة سقوط
شيء ما يسقط، وأشياء كثيرة قيد السقوط .. هكذا بدأ الأمر قبل أن يصير حالة من السقوط. تلك حقيقة لا يعتقد بها إلا المجانين، وقد أصبحت مؤخرا واحدا منهم.
البداية كانت في البحث عن الحقيقة، كنت واحدا من فرقة مسرح تحضر لعرضها الجديد، وكنا جميعا نبحث في عروضنا عن الحقيقة، تلك التي نؤمن بغيابها بشكلها الكامل، وإنما نسعى نحوها ونخوض الرحلة، قد يكون المسرح بهذا المعنى ما هو إلا رحلة إلى الأبد، ومع هذا علينا كممثلين أن نعثر على حقيقة ما ونصدقها كي يصدقنا الجمهور، وهذا لن يحدث إلا إذا صدقنا نحن أولا، وكيف أصدق ما لا أعرفه؟
لست أعرف إلا عبارات مرصوصة في نص يحتاج لتجسيد، وقد كان علي أن أبحث عن الجسد الحقيقي للنص؛ إذ تكون الحقيقة مجسدة، ولكن قبل أن أذهب إلى هناك حيث الشخصية الحقيقية أي التجسيد، علي أن أحصن نفسي تماما، حتما إنكم سمعتم عن ممثل ما يتورط بالشخصية. والشخصية هنا بأبسط كلمة هي شخصية مجنون، وهل ثمة من تجسيد آمن لشخصية مجنونة؟ لا أعرف؛ ولذا وجب التحصين.
إذن فقد قررت الذهاب إلى مصحة للأمراض العقلية والنفسية، وهناك التقيت بمديرة المصحة «السيدة رضوى»، وقد استقبلتني ببساطة وهدوء تشوبهما ابتسامة عريضة تبدو حقيقية تماما، ولكني لم أصدقها؛ فقد كانت طويلة جدا، امتدت على مدى المحادثة، أقلت محادثة؟ لا ليست كذلك، فوحدي من كان يتحدث.
أخبرتها عن مشروعي المسرحي، وطبيعة الشخصية التي سأجسدها، لم أقل لها تجسيدا وحسب، بل عدت وزدت في هذا الأمر، ربما لأني أحب أن أستخدم مصطلحات أخرى ولم أعترف لنفسي بذلك حينها، بل قلت في نفسي: «سأكرر كي تفهمني بشكل أوضح.» فقلت مثلا: «أعايشها»، ثم قلت «أمثلها»، وكررت «ألعبها.» أما السيدة فلا شيء؛ فقد اختفت البسمة عن شفتيها فجأة. قلت بأبسط عبارة: «أريد مقابلة أحد يعاني من تهيؤات.» وواصلت الصمت، وبعد لحظة حكت حاجبها من أعلى عويناتها، ثم عطست ولا شيء آخر، بل استمر صمتها.
Unknown page