Mughalatat Lughawiyya
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
Genres
فجعلوا الحاء (لرقتها) للماء الضعيف، والخاء (لغلظها) لما هو أقوى منه ... ومن ذلك أيضا سد وصد، فالسد دون الصد؛ لأن السد للباب يسد، والمنظرة ونحوها، والصد جانب الجبل والوادي والشعب، وهذا أقوى من السد، الذي قد يكون لثقب الكوز ورأس القارورة ونحو ذلك (فجعلوا الصاد لقوتها للأقوى، والسين لضعفها للأضعف)، ومن ذلك القسم والقصم، فالقصم أقوى فعلا من القسم؛ لأن القصم يكون معه الدق، وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما؛ فلذلك خصت بالأقوى الصاد، وبالأضعف السين ... وقولهم: بحث (عرضنا لها آنفا)، ومن ذلك قولهم: شد الحبل ونحوه، فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد، ثم يليه إحكام الشد والجذب، وتأريب العقد، فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين، لا سيما وهي مدغمة؛ فهي أقوى لصنعتها وأدل على المعنى الذي أريد لها ... ومن ذلك أيضا جر الشيء يجره، قدموا الجيم لأنها حرف شديد، وأول الجر بمشقة على الجار والمجرور جميعا، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهو حرف مكرر، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها، واضطرب صاعدا عنها، ونازلا إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق، فكانت الراء - لما فيها من التكرير، ولأنها أيضا قد كررت في نفسها في «جر» و«جررت» - أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. هذا محجة هذا ومذهبه ... ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها، ولا يحاط بقاصيها، ازدحام الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون، إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما، من ذلك «الدالف» للشيخ الضعيف، والشيء التالف ... و«الدنف» المريض ... و«الترفة » لأنها إلى اللين والضعف ... «والطرف» لأن طرف الشيء أضعف من قلبه وأوسطه، و«الفرد» لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو ... و«الفتور» للضعف، و«الطفل» للصبي لضعفه ...»
27
ومع تقديرنا العميق لعبقرية ابن جني ونظره اللغوي الثاقب، فليس يخفى ما في بعض أمثلته من التكلف والتعسف، وتمحل العلاقة حيث لا علاقة. يقول د. إبراهيم أنيس: «ألست ترى فيما تقدم قدرا كبيرا من التكلف والتعسف؟ خذ مثلا المادة «سمح» التي لم نعمد إليها عمدا، أو قصدنا إليها قصدا، وإنما كانت أول ما صادفنا حين فتحنا الجزء الأول من قاموس المحيط، أليس منها السماحة التي هي لين ودعة وإشراق؟ ولكن منها أيضا «المسح» وهو إزالة ومحو، ومنها «حمس» بمعنى اشتد وصلب في القتال، ومنها «السحم» الذي هو السواد ولا إشراق في السواد، ثم منها «حسم» بمعنى قطع، والحسوم الشؤم، الليالي الحسوم التي تحسم الخير عن أهلها! فإذا كان ابن جني قد استطاع، في مشقة وعنت، أن يسوق لنا للبرهنة على ما يزعم بضع مواد من كل مواد اللغة التي يقال إنها في معجم صحاح اللغة تصل إلى أربعين ألفا، وفي معجم لسان العرب تكاد تصل إلى ثمانين ألفا، فليس يكفي مثل هذا القدر الضئيل المتكلف لإثبات ما يسمى بالاشتقاق الكبير.»
28 «هكذا نرى أن ابن جني كان ممن يؤمنون إيمانا قويا بوجود الرابطة العقلية المنطقية بين الأصوات والمدلولات أو ما يسميه بعض المحدثين بالرمزية الصوتية، بل لقد غالى ابن جني ومعه الثعالبي صاحب فقه اللغة، إذ جعلا مجرد الاشتراك في أصلين فقط من الأصول الثلاثة دليلا على الاشتراك في معنى عام لبعض الكلمات، فيقرر أن المعنى العام للتفرقة يكون بصوتي «الفاء والراء» والمعنى العام للقطاع يكون «بالقاف والطاء»، إلى غير ذلك من تخيلات وتأملات تشبه أحلام اليقظة عند رجل اشتد ولعه وإعجابه باللغة العربية؛ فتصور فيها ما ليس فيها، وأضفى عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغة من لغات البشر.»
29
ويرفض البحث اللغوي الحديث هذا كله وإلا فإنه يجب على هذا أن نتصور نوعا من الارتباط بين حروف الفعل «أدرك» وحروف الفعل «فهم» لأن لكل منهما نفس الدلالة؛ وعليه من جهة أخرى أن ننكر من اللغة تلك المئات من الكلمات التي اشتركت لفظا واختلفت معانيها اختلافا بينا (من قبيل: ضرب، فصل، عين ...).
وفي كتابه «دلالة الألفاظ» يقول د. إبراهيم أنيس: «الأمر الذي لم يبد واضحا في علاج كل هؤلاء الباحثين هو وجوب التفرقة بين الصلة الذاتية والصلة المكتسبة، ففي كثير من ألفاظ كل لغة نلحظ تلك الصلة بينها وبين دلالتها، ولكن هذه الصلة لم تنشأ مع تلك الألفاظ أو تولد بمولدها، وإنما اكتسبتها اكتسابا بمرور الأيام وكثرة التداول والاستعمال، وهي في بعض الألفاظ أوضح منها في البعض الآخر، ومرجع هذا إلى الظروف الخاصة التي تحيط بكل كلمة في تاريخها، وإلى الحالات النفسية المتباينة التي تعرض للمتكلمين والسامعين في أثناء استعمال الكلمات. فإذا تصادف أن عني أحد المتكلمين بأصوات لفظ من الألفاظ، واسترعى انتباهه أكثر من غيره، لا يلبث أن يعقد الصلة الوثيقة بينه وبين دلالته، ويتصور نوعا من المناسبة بين تلك الأصوات وما تدل عليه، ويحاول نقل شعوره إلى غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإذا تصادف أيضا أن أحس فريق من الناس نفس الإحساس، بدأت عملية ذهنية أخرى هي الربط بين هذه الأصوات وأشباهها من الكلمات الأخرى؛ لأن الذهن الإنساني يميل إلى التجميع والتعميم، وتلتقي تلك العملية بعملية نفسية أخرى هي التي تسمى بتداعي المعاني، أي أن المعنى حين يخطر في الذهن يدعو ما يشبهه أو يقاربه، وهنا قد يخطر في الذهن فكرة الربط بين مجموعة من الألفاظ المتشابهة المتقاربة، بمجموعة من المعاني المتشابهة أو المتقاربة، ويترتب على هذا أن يشيع بين أبناء اللغة نوع من الوهم يشعرون معه بوثوق الصلة بين الألفاظ والمدلولات.»
30
وقد عرض الأستاذ العقاد لمسألة المحاكاة الصوتية في كتابه «أشتات مجتمات في اللغة والأدب»، تعقيبا على رأي للأستاذ رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) في اختصاص بعض الحروف بمعان معينة؛ فالفاء للإبانة والوضوح ، والضاد للشؤم، والحاء للمعاني الشريفة القوية . يقول العقاد: «كان الأستاذ برادة يبحث عن أثر الحروف في السمع وعلاقة ذلك بالفصاحة والإقناع، ويعتقد أن الحاء أظهر الحروف أثرا في الإيحاء بمعاني السعة، حسية كانت أو فكرية، ويعمم الحكم فيسوي بين موقع الحاء في أول الكلمة وموقعها في وسطها أو آخرها، ويتمثل بكلمات الحرية والحياة والحكم والحكمة والحلاوة ... ولقد كان زميله الهلباوي على عادته في الفكاهة والدعابة يسخر من فلسفته «الحائية» كما يسميها، ويقول إن اسم «الحمار» مبدوء بالحاء، وإن أشيع اللفظات على ألسنة النادبات يتردد فيها حرف «الحاء» ... إلا أننا كنا نخالف الأستاذ برادة في تعميم الحكم على الحرف بغير تفرقة بين مواقعه في الكلمات ومواقعه في السماع، وقد ضربنا له المثل بكلمات لا تغيب عن المحامين على التخصيص وهي كلمات «الحبس والحجر والحرج والحد والحساب والحرس» وغيرها من الكلمات التي تناقض معاني السعة بالحس والتفكير.»
31
Unknown page