Mughalatat Lughawiyya
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
Genres
56
والأفراد يكتسبون اللغة من بيئتهم وفي عصرهم الذي عاشوا فيه، ومن ثم فإنهم يراعون اللغة كما تنطق في عصرهم لا كما تنطق في عصور سبقت، ولا كما ينبغي أن تنطق وفق نموذج مثالي لعصر ذهبي غيبته الأيام، اللغة في تغير مستمر، وقد يكون هذا التغير بطيئا لا يتضح إلا بمرور جيل أو أجيال، ولكنه يحدث، ولا ينفيه بطء حدوثه، ونحن إذ نفترض الثبات اللغوي فإنما نفعل ذلك لدواعي التشريح والدراسة، وبغية اقتناص «حالة لغوية» سينكرونية لضرورة الرصد والتقعيد، بينما اللغة في حركة مستمرة والعرف اللغوي في تغير دائب، الثبات اللغوي إذن ليس أكثر من حيلة إجرائية ووهم عملي.
نخلص من ذلك إلى تعريف المستوى الصوابي على أنه: «مراعاة العرف اللغوي المقتصر على بيئة خاصة في زمن خاص، مع اعتبار التطور في اللغة، يتوافق معه نشاط المتكلم ويلاحظه الباحث بهذه الصفات.»
57
يتبع ذلك بالضرورة تغير ما يراعيه المتكلم على حسب العرف اللغوي الجديد الذي يفرض نفسه عليه كي يتوافق معه، ويترتب عليه أن مستعمل اللغة لا يطالب بغير مراعاة المستوى الصوابي في اللغة الذي اكتسبه من الجيل الذي هو أحد أفراده، ومن عرف العصر الذي عاش فيه .
58
ليس هذا الحديث دعوة إلى إلغاء القواعد والانصراف عن جهات الاختصاص اللغوي، بل دعوة إلى أن تراعي جهات الاختصاص طبيعة القواعد ومنشأها وحركتها، بحيث تأتي القواعد متفقة مع استعمال اللغة وتطورها وتبرأ من التعسف والجمود، وتأتي المقترحات الجديدة متوافقة مع طبيعة اللغة، بوصفها ظاهرة اجتماعية تخضع للعرف الاجتماعي العام والعرف اللغوي الخاص، ولا تكون محاولات دونكيشوتية تحارب في غير ميدان، ومماحكات تكد الذهن في غير طائل.
لقد توقف النحاة في تقعيداتهم عند زمن معين لا يتجاوزونه، بينما اللغة الحقيقية تمضي في سبيلها غير عابئة بهم، توقفت القواعد بينما العرف اللغوي يتغير مع الزمن، فاتسعت الفجوة بينهما وصارت هوة، هذا ما أربك الفصحى وصعب قواعدها وجعلها أشبه بلغة أجنبية في دراستها وفي استخدامها. «إن التطور اللغوي (الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي) ليستتبع تغييرا في المستوى الصوابي من الناحية التاريخية كذلك، فما كان صوابا في الماضي يصبح خطأ في الوقت الحاضر، ويصبح خطأ اليوم صواب الغد إذا رأى المجتمع اللغوي أن يتبناه في الاستعمال.»
59 «وليس من حق الباحث في اللغة أن يفترض فيها التوقف عند فترة معينة أو جيل خاص أو عدة أجيال، فيجمد الدراسة ويترك عمله الحقيقي في ملاحظة اللغة الدائبة التغير، وينصرف إلى تفريعات ومماحكات وعنت ذهني عقيم لا حاجة باللغة إليه، ثم يفرض ما لاحظه عن اللغة في فترة من فتراتها على فترة أخرى أدى إليها تطورها، وهذا عكس لمهمة الدارس من الوصف إلى التحكم، ومن الملاحظة إلى المصادرة.»
60 «ولو أن الاستشهاد لم يقف عند حد على يد النحاة العرب لأمكن أن تجري دراسة اللغة على مراحل وعصور باستقراء ما يجد من النصوص إلى أيامنا هذه، ولاعتبر كل ميل غير فردي إلى مخالفة القواعد السابقة تطورا في الاستعمال اللغوي يتطلب تطورا في النظرة إلى هذه القواعد في ظل منهج وصفي لدراسة اللغة، ولكن إيقاف الاستشهاد عند حد معين جعل النحاة وقد جفت روافد الاستقراء عندهم يلجئون إلى ما لديهم من القواعد، فيجعلونها مادة الدراسة بدل النصوص التي أعوزهم الجديد منها، وما دامت القواعد نفسها هي الهدف وهي مادة الدراسة فلا مهرب إذن من النظرة إلى هذه القواعد باعتبارها مقاييس ومعايير من صلب المنهج؛ لبيان الصحيح والخطأ من التراكيب، أي أن المستوى الصوابي بدل أن يكون فكرة اجتماعية يراعيها المتكلم، أصبح فكرة دراسية يراعيها الباحث، وبهذا توقف العمل بالمنهج الوصفي في دراسة اللغة، وأصبح لزاما علينا الآن أن ننظر إلى الدراسات اللغوية العربية باعتبارها دراسة تصف مرحلة معينة من تطور الفصحى، ولكن هذه المرحلة تشتمل في الحقيقة على مراحل، وقد كان مؤرخو الأدب أسرع إلى الاعتراف بعصور اللغة من النحاة، وكان أولى بالنحاة أن يعترفوا بهذه المراحل ويدرسوا كل واحدة منها دراسة وصفية على حدة كما فعل أصحاب تاريخ الأدب.
Unknown page