Mucdilat Madina Haditha
معضلات المدنية الحديثة
Genres
جاء في مذكرات عرابي ص15 بعد أن ذكر عطف المغفور له سعيد باشا عليه ما يأتي:
ولشدة إعجابه بي أهداني تاريخ نابليون بونابرت باللغة العربية، طبع بيروت، وهو بادي الغيظ على أن تمكن الفرنسويون من التغلب على البلاد المصرية والتحريض على وجوب حفظ الوطن من طمع الأجانب. ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سببا في مطالعتي كثيرا من التواريخ العربية.
على أن عرابي إن استطاع أن يضرم نيران الثورة في قلوب ما كانت تعرف للثورة طريقا ولا فهمت للقومية معنى عمليا، فإنه ولا شك أخفق كل الإخفاق في طبع الشعب على الحياة الديمقراطية الدستورية، ولا ريبة في أنه أخفق فيما كان يخفق فيه غيره مهما أوتي من قوة القلب والعقل، لأن تغيير أفكار الشعوب واستعداداتها دفعة واحدة كجرعة الدواء تعطى مرة في حين أنها من الواجب أن تعطى أقساطا. أما الأقساط الدستورية فقد أخذها الشعب المصري من يد ممرضيه العاملين على حفظ نسبة خاصة من الصحة والمرض بقدر حاجتهم فاشية في جثمانه، أخذا في مدى خمسين سنة من الزمان. أما إذا كان الشعب المصري قد بلغ من النقاهة من أمراضه القديمة المزمنة مبلغه الآن، فمن المرجح تغليبا أن الثورة العرابية ما كانت لتسير في ذلك الطريق الذي أسلم بها إلى الفشل وبزعمائها إلى منفى سرنديب شقة وأقصى مزارا. ولكن مزاج الشعب قد تغير وقوته المعنوية قد تطورت وبدا فيها من مجالي النشاط والقوة ما حمل المستبدين على الرضوخ لرأيه في زعمائه. والأمة إن نسيت زعماءها سنة 1881 سراعا وظلت تنساهم ثلاثة عقود ونيف من الزمان وهم في آلام النفي وشقاء الغربة، فإنها لم تنس زعماءها في أصيل الربع الأول من القرن العشرين لحظة واحدة، ولا فاتها أن تمضي في تضحياتها الكبيرة دفاعا عن حقها المهضوم وحماها المستباح. •••
على أن الزعماء والأبطال ليسوا إلا بشرا مخلوقين على ما في الطبيعة الإنسانية من نقائص وكمالات، فهل كان السبب في فشل عرابي أن نفسه لم تتسع بدرجة كافية لتلك الصفات المدنية التي تمد الثورات عادة بكل ما يهيئ لها أسباب النجاح؟ الحقيقة أن المذكرات التي فرغت من قراءتها أمس لا يمكن أن تظهرنا على شيء من نفسية ذلك البطل المنكود الحظ السيئ الطالع. على أن ظروف العالم الذي أحاط به ومشكلات السياسة العامة، ما كانت تفسح لنقائص عرابي مجال الانبعاث في سبيل شهواتها الدنيا، ذلك احتمال قد يكون صحيحا وقد يكون غير صحيح. غير أن الذي نستطيع أن نقضي فيه بحكم ثابت هو أن نفسية عرابي لا تظهر في ذلك الجزء من مذكراته إلا غامضة مبهمة، لهذا نترك الحكم فيها إلى المستقبل الذي نرجو أن يزودنا ببقية تلك المذكرات عما قريب.
أما طبيعة الثورة ذاتها فإنها لا تخرج عن طبيعة كل ثورة عسكرية أخرى تتحكم فيها القوة بما تشاء أن تتحكم. والخطأ الوحيد الذي وقع فيه عرابي أنه لم يترك للقوة المدنية أية فرصة من الانتفاع بنتائج ثورته العسكرية، وهذا الخطأ بعينه هو الذي وقع فيه كرومويل، وهو بعينه الذي اجتاح زعماء الثورة في فرنسا والاتحاديين في تركيا وغيرهم في ممالك أخرى. فلو أن تدخل عرابي في سلطة الحكومة قد وقف عند مظاهرة عابدين وعند انتزاع الدستور وتقرير حق الأمة، ثم ترك السلطة السياسية والسلطة الإدارية كلاهما تسير بالبلاد في جو بعيد عن عواصف الثورة العسكرية؛ لما وجدت في تاريخه كله من خطأ يأخذه عليه التاريخ. والغالب أن هذه الطريقة التي اتبعها في تدخل القوة العسكرية في الإدارة والسياسة المدنية كانت فاتحة لسلسلة أغلاط حوطته بظروف لم يستطع الإفلات في نتائجها ومن ضغطها.
خذ لذلك مثلا تلك المشادة التي وقعت بينه وبين شريف باشا بعد مظاهرة عابدين مباشرة وبعد إعلان الدستور، على تعيين وزير الحربية؛ فقد جاء في مذكراته ص238 ما يلي:
وفي يوم 10 سبتمبر سنة 1881 توجهت إلى سراي شريف باشا وهنأته برياسة الوزارة الجديدة، وطلبت منه أن يعنى بانتخاب من يؤازرونه في سرعة تشكيل مجلس النواب ونشر الحرية في البلاد، ورغبت إليه في تعيين محمود سامي باشا ناظرا للجهادية، ومصطفى فهمي باشا ناظرا للخارجية، لما أعلمه من ميلهما مع العدل والحرية؛ فأبى وقال: إني لا أقبل أن يكون في وزارتي محمود سامي ولا مصطفى فهمي، لأنهما لم يوفيا بالعهد الذي تعاهدنا عليه من قبل، فقد اتفقنا على أنه إذا رفض الخديو الموافقة على تشكيل مجلس النواب استقالت وزارتنا ولا يشترك أحد منا بعد ذلك في الوزارة الجديدة، ولكنهما نكثا بالعهد وقبلا الدخول في وزارة رياض باشا التي قامت بعد وزارتنا والتي سقطت بالأمس، لذلك لا أستطيع أن أشتغل معهما. قلت له: إن لكل وقت حكما وإني واثق بحبهما للحرية والعدل والمساواة (لاحظ أن هذه نغمة فرنسوية)، وفضلا عن ذلك فإن العسكرية لا تطمئن لغير محمود سامي.
فقال: أفلا ترضون أن أكون ناظرا للجهادية، فإني قد تربيت معكم في العسكرية؟ فقلت: لقد اخترناك رئيسا للوزارة ولا بد من مراعاة ميول رجال العسكرية. فلما أصر على عدم قبولهما في وزارته تركته ورجعت إلى أشغالي من غير أن يتم شيء في أمر الوزارة. وفي يوم 14 سبتمبر سنة 1881 قابلته مرة أخرى وقلت إنه لا يمكن ترك البلاد بلا وزارة، فأصر على الرفض ، فقلت له : إن لم تؤلف الوزارة اليوم فسنطلب غيرك، ولا تظن أنه ليس بالبلاد سواك ففيها بحمد الله العلماء والحكماء، ولم يكن اختيارك لعدم وجود غيرك لهذا المركز الخطير. فاغرورقت عيناه بالدموع ولم يحر جوابا، ثم خرجنا من عنده، وبعد قليل جاءنا الشيخ بدراوي عاشور (وكيل زراعته، الذي نال رتبة باشا في زمن الاحتلال حين كان شريف باشا رئيسا للنظار أيضا)، وقال إن الباشا قبل ما عرضته عليه وإنه يريد مقابلتي، فذهبت إليه مع محمود سامي باشا حيث أعلن تشكيل الوزارة.
هذه الروح الدكتاتورية هي التي أنبتت في الثورة ما أنبتت من مساوئ الثورات العسكرية، وهي روح عاصية حتى على الزعماء، فإنها تجتاحهم وتذهب بهم إلى حيث ينتظرهم الفشل المحتوم، فإن أخطر شيء على ثورة عسكرية روح تحكمية تذهب بها في جو من التنازع والخلاف بين زعمائها وبين زعماء السياسة والإدارة، تذهب إلى حيث تخضعهم ولا تبقى إلا نيرانها العسكرية المتسعرة تأكل بعضها حتى تخمد حيث هي فلا تبقي من نتائجها المنتظرة على عين ولا أثر.
بعد تعيين شريف باشا وإكراهه على تأليف وزارة يرضى عنها الحزب العسكري، نقع في ص271 من مذكرات عرابي على هذه الخطرة الغريبة:
Unknown page