من بين الدول العربية ذات المساحات القابلة للسكن المهاجر السودان والعراق. وهما على طرفي نقيض: السودان شاسع يضم بيئات عديدة من الصحاري إلى غابات وحشائش مدارية، ويتميز بمصادر مائية عديدة وأمطار لا بأس بها، لكنه لأسباب كثيرة ما زال فقيرا، فالتنمية الحديثة في الزراعة والثروة الحيوانية لم تبدأ بعد بدرجة معقولة إلا في مناطق محدودة على مياه النيل، وما زال الصراع العرقي والقبلي والديني والإقليمي يقلل من توازن السودان سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مما لا يؤدي إلى جاذبية هجرة دائمة قبل فترة زمنية في المستقبل لسنا بقادرين على التنبؤ بمداها؛ لكثرة المدخلات السودانية الذاتية والتداخلات الخارجية معا.
أما العراق فهو من دول البترول الغنية ويتميز بسهول كثيرة ذات درجة جيدة من الخصب، وموارد مائية معقولة ونشاط زراعي معظمه تقليدي يمكن تنشيطه بدرجة عالية،
1
ولكن ظروفه الراهنة تحت الاحتلال والاقتتال الطائفي تؤجل دوره كجزء فاعل في حركة العرب داخل البلاد العربية. وهكذا كان يمكن للعراق والسودان أن يصبحا صمام أمن عربي باستيعاب هجرات عربية ومصرية بقدر ولو محدود ففقدناه - ليس فقط للأسباب الداخلية والخارجية في كل منهما، بل أيضا لأسباب أخرى جوهرية، نوجزها في الآتي: علينا أن نعترف أنه برغم عروبتنا الثقافية وسيادة العقيدة الإسلامية فإن هناك مكامن للمشاعر القومية الحديثة تحيل المصري والسوري والعراقي والفلسطيني والخليجي والليبي والسوداني ... إلخ. حضاريا إلى قوميات ليس من السهل تجانسها وتظهر معالم تعصبها عند أول اختبار. وهذا التزاحم حول قومية وحدود مستوردة لم تكن في طبائع الأمور بهذا القدر من الفجاجة، مما يجعل إقامة المهاجرين عسرة تعتريها ذبذبات كثيرة برغم الترحيب الرسمي للدولة بالمهاجرين. غالب المهاجرين نشطاء لتبرير وتثبيت وإنجاح هجرتهم، ولكن النجاح الذي يحققونه يصبح في أحيان كثيرة مثار حفيظة تولد احتكاك مع المواطنين الأصليين ترتب عليه أحداث مؤسفة محزنة معروفة. والخلاصة أن الهجرة لا تنجح لمجرد التسهيلات الرسمية من جانب حكومات المهجر، بل يجب أن يلحق ذلك تأهيل للمواطنين والمهاجرين على العيش معا؛ لأنهما سيكونان نسيج المواطنة الجديد، وهو ما لم يحدث بفعل خارجي لمنع التآلف بين الناس؛ لأنه يهدد مصالحهم أو وجودهم في الشرق العربي.
ثانيا: الاحتمالات المسموحة لحركة الناس بين الدول العربية
لهذا فإن هجرة العمل المؤقتة إلى البلاد البترولية هي أكثر أشكال الهجرة نجاحا؛ لانتظامها في أشكال قانونية سواء من دول منبع العمالة أو الدول المستوردة لها. ولقد أدت هذه الهجرة إلى تأجيل بعض المشاكل الاقتصادية التي تعاني منها دول المنبع، لكنها أدت إلى أنواع من المشكلات الاجتماعية الاقتصادية تعاني منها هذه الدول حيث لم تكن هناك أجهزة وإرشادات لحسن التصرف في المدخرات التي يأتي بها العامل من الخارج، فضلا عن نهب جوانب من المدخرات بواسطة مغامرين تحت مسمى «توظيف الأموال». كما أن هذا النوع من الهجرة المؤقتة هو آخذ في النقصان لسببين؛ أولهما: ما سبق ذكره من تكوين كوادر محلية تحل محل العمالة الوافدة، وثانيهما: تذبذب الدخل الوطني بتأرجح أسعار البترول، والتزام الدول بتشغيل مواطنيها قبل توظيف الوافدين.
ثالثا: الحدود العربية بين البراجماتية والجمود
وأخيرا وليس آخرا فإن تخفيف قيود الحدود السياسية للدول العربية بشكل أو آخر ضمن إطار جامعة الدول العربية والاتفاقيات الثنائية؛ قد يساعد على إيجاد صيغة «الأواني المستطرقة» بين سكان العالم العربي، كما كان الحال دائما في الماضي البعيد وغير البعيد، حين كان السكان ينساحون بدرجات مختلفة على الأراضي العربية. لست أدعو الآن إلى صيغة مماثلة للاتحاد الأوروبي، وإن كان ذلك ممكنا في وقت ما. ففي مستقبل قريب لن تكون هناك عالميا كيانات صغيرة قادرة على العيش المستقل. بل تكتلات كبيرة تضم ثقافات ولغات مختلفة لكنها قادرة على إيجاد إطار متوازن من الأنشطة الاقتصادية المتقدمة يشمل كل المجتمعات داخل التكتل الكبير. ونحن في العالم العربي نملك تجانسا ثقافيا ولغويا تحسدنا عليه مجموعة الاتحاد الأوروبي، وليس في تاريخنا حروبا مميتة وصراعات مزمنة كما كان في أوروبا. كل ما علينا أن نتجاوز بالتدريج التناقضات العربية في الدخل القومي وأشكال الإنتاج وأعداد السكان وتحييد المؤثرات الأجنبية الداعية إلى الإبقاء على الانقسامات، حتى يحدث في النهاية نوع ما من التوازن بين الأقاليم الجغرافية داخل عالم العرب. في هذا الموضوع أقوال وحجج كثيرة مؤيدة ومعارضة معروفة فلا داع لتكرارها. والمطلوب نمو إيديولوجية عربية تجريبية على مهل، بعيدا عن الطنطنات الخطابية، بحيث تنمو بالارتباط التدريجي للمصالح العملية المشتركة بين الدول العربية. ربما يبدأ ذلك بمشاركة الشعوب في اتخاذ القرارات. (ج) الانضباط الذاتي للنمو السكاني
الموضوع الأخير القابل للتحكم والسيطرة داخل مصر هو ما نسعى إليه جميعا لخفض نسبة النمو السكاني على سبيل المثال من 2٪ سنويا إلى 1٪ بالتدريج. كيف يكون ذلك؟ هناك تفسيرات عديدة لانخفاض الخصوبة وضبط الإنجاب من أشيعها: (1)
السكن في المدن باحتياجاته السكنية والمعيشية والتعليمية والوظيفية يساعد على إدراك الناس تدريجيا أن تقليل الإنجاب هو من ضرورات حياة المدن. وباستثناء المدن الحضرية الأربعة
Unknown page