185

Misr

مصر: نسيج الناس والمكان والزمان

Genres

والآن تبدأ الولايات المتحدة عولمة جديدة بقوتها الاقتصادية والعسكرية. والولايات المتحدة، وإن شابهت أوروبا كدولة قومية، إلا أنها أكثر شبها بدول العوالم الكلاسيكية، وبخاصة العولمة الإسلامية. فكلاهما - العالم الإسلامي الماضي والأمريكي الحالي - منفتح على العالم يستقطب الأفكار والعلماء والمبتكرين والفنانين والمبدعين، بغض النظر عن أصولهم ولغاتهم ودياناتهم. فأسماء البخاري، والترمذي، والبيروني، والمسعودي، وابن خلدون، والمتنبي، والمعري، وشوقي، والأفغاني، ومحمد عبده في تاريخ الحضارة الإسلامية دليل عولمة قوية عربية اللغة والثقافة. وأينشتاين، وأحمد زويل، ومحمد عبده، دليل على نهج مماثل في الولايات المتحدة، يستقطب العلماء من أي مكان، بفضل توافر إمكانات بحثية هائلة متطورة، وهو الأمر الذي يسمى في الدول النامية على وجه الخصوص بظاهرة «استنزاف العقول».

وقد كانت القيم الإسلامية حول حرية الفكر سائدة بين علماء «دار الحكمة» أيام الخليفة المأمون، ومن قبله ومن بعده، فإن مثل هذه القيم تنقص مساعي العولمة الأمريكية الحالية برغم الديموقراطية الداخلية؛ ولهذا فقد قادت مظاهر القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية إلى مزالق كثيرة، أدت سياسيا إلى شيوع صورة «الأمريكي القبيح»، الملتجئ أبدا إلى القوة المفرطة في العالم النامي والمتقدم على السواء، وذلك برغم وجود قيم جيدة كثيرة بين الأمريكان كشعب وأفراد.

والغطرسة الأمريكية ليست ظاهرة فريدة، بل سبقتها غطرسة السيادة والعنصرية الإنجليزية والفرنسية والألمانية من قبل. وعلى أي الحالات فإن عدم انصياع أمريكا للكثير من مقررات الأمم المتحدة في الصراع العربي الإسرائيلي، ونقض الاتفاقات الدولية بتفضيل مصالحها، ولو أدى إلى ضرر عالمي بيئي، مثل انسحابها من اتفاقية كيوتو، والالتجاء إلى القوة كما حدث في الصومال، وما يحدث في أفغانستان الآن «والعراق»، والإصرار على تنفيذ اتفاقية التجارة العالمية، كلها أمور تعتم صورة أمريكا، وتجعل دعوى العولمة الحالية مثار جدل عنيف في كثير من دول العالم، برغم ما قد يكون فيها من بعض الميزات تراها أوروبا ولا تراها قوميات أخرى أو عوالم الإسلام والكنفوشية والهندوسية.

والخلاصة: أن دعوى العالمية الحالية ليست نهاية المطاف. فقد سبق أن استوعب العالم عولمات سابقة وطوعها إقليميا وطرح جانبا ما فيها من خشونة واستبداد. وستظل مثل هذه التوجهات العالمية مستمرة ما بقي التطور الفكري والتنظيري لدى الإنسان من أجل عالم أفضل، تقل فيه فروق الشعوب، وتكبر فيه قيمة الإنسان ساكن هذا الكوكب. (3) احتياجاتنا لكي نشارك في عصر المعلومات

بعد الانبهار الذي صاحب زيارة رئيس الدولة للصين وبخاصة مدن الإلكترونيات، تصاعدت التصريحات حول إنشاء مدينة مماثلة لصناعة الإلكترونيات في مصر، قيل: إنها ستكون على الأغلب في مكان قرب مدينة 6 أكتوبر، ولكن قبل ذلك كانت هناك أيضا أقوال كثيرة عن القرية الذكية «مدينة مبارك»، وأيضا «وادي التكنولوجيا» قرب الإسماعيلية. وكان وادي التكنولوجيا في أواسط التسعينيات مخصص له قطاع أرضي من شمال 6 أكتوبر، أزيح عنه من أجل استثمارات عقارية أو نحو ذلك، والآن يعود الوادي المقترح إلى 6 أكتوبر مرة أخرى.

وفيما بين هذه الاتجاهات الكثيرة والآمال الطموحة كانت هناك بعض صناعات الاتصالات الإلكترونية في غرب الإسماعيلية، ونواح أخرى من مصر. وفي ذات الوقت انتشرت استخدامات الكومبيوتر على مستوى هيئات حكومية وخاصة كثيرة كالبنوك والأعمال المالية والائتمانية والسكك الحديدية ومصر للطيران وهيئة الكهرباء وكثير من الوزارات، جنبا إلى جنب كليات الحاسب الآلي في الجامعات الكبرى والمعاهد الخاصة، وشيوع أجهزة الكومبيوتر الشخصي لدى عدد لا بأس به من الأفراد والمكاتب، وظهور شركات خاصة لشبكات المعلومات العالمية «إنترنت»، وشاعت أيضا معاهد ومراكز خاصة لتعليم الكمبيوتر، وأيضا ما يسمى «مقهى الإنترنت» للذين لا يملكون هذه الخدمة المعلوماتية العالمية كطلبة البحوث العليا.

بطبيعة الحال كل هذه أمور جيدة، لكنها ما زالت في مرحلة استخدام المتاح من المعلومات دون المشاركة في إنتاجها؛ أي إننا ما زلنا مستهلكين إلى حدود عالية. بعض الهيئات والشركات تنشئ لنفسها مواقع على الإنترنت، لكنها إسهامات ضعيفة بالمقارنة بعالم المعلومات المطلوب لبناء شبكة قومية أو عربية من ناحية، وشبكة تجارية اقتصادية من ناحية ثانية، وشبكة معلومات ثقافية حضارية علمية وأدبية من ناحية ثالثة.

ولا شك في أن هناك حساسيات مرتبطة بمعلومات عن الأمن القومي والداخلي، وهذه بالقطع غير مطلوبة للشبكات المعلوماتية إلا بقدر ضئيل، ولكن إلى جانب ذلك هناك معلومات عادية كثيرا ما توصف بالسرية، وغالبها ناتج عن هاجس يسيطر على البيروقراطية دون مبرر حقيقي سوى الخوف من المساءلة، علما بأن الكثير من هذه المعلومات الموصوفة بالسرية هي معلومات متاحة في العالم الخارجي! متى نكف عن هذه الممارسات البيروقراطية البشعة، وننفتح على أنفسنا قبل أن ننفتح على الخارج. وبدلا من أن نطلب المعرفة والمعلومات من الشبكات الأخرى - وقد يكون بها توجهات سياسية معينة - نطلبها من الشبكة القومية، رغم أنها هي الأخرى قد تكون ذات توجهات معينة.

إذا نجحنا في إنشاء مدينة لإنتاج الإلكترونيات وأجهزة الاتصالات فإن ذلك سيكون له نظريا عائد تصديري معقول ومرغوب في العالم العربي. لكن العائد الأكبر هو القدرة على اتخاذ القرار داخل البلاد العربية، لكن علينا أن نلاحظ أننا ندخل هذا الميدان متأخرين، وبهذا فنحن منطقيا غير قادرين على منافسة الكم الهائل من إنتاج الأجهزة في شرق آسيا أو الصين أو الهند. والأمل أن يسعفنا الوقت لنبني لأنفسنا مكانا صغيرا في العالم حولنا . وذلك بالتركيز على إنتاج احتياجات السوق المصرية السودانية أو العربية أو هما معا، ويحتاج مثل هذا الأمر تكاتفا كبيرا لرأسمال وطني عربي من أجل استخدام طيب لقاعدة العمل البشري المدرب في هذا المجال من مصر وبقية العالم العربي، هذا هو الجانب المادي من احتياجاتنا من عالم المعلومات؛ أي إنتاج الأجهزة والبرمجة العربية. والتركيز على المشاركة العربية المالية والتكنولوجية أمر حتمي باعتبار السوق العربية سوقا واحدة. ولا يجب أن نفهم من ذلك أننا سنستغني عن أجهزة المعلومات الأجنبية، بل إن انفتاحنا على شبكاتها أمر ضروري للمزيد المعرفي على المستوى العالمي.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف الذي يساعدنا على أن نتشارك علميا وعمليا مع عالم المعلومات، فنحن في حاجة إلى تنفيذ ما تفرضه احتياجات السوق بإنشاء شبكة معلومات باللغة العربية. وأول المفروض هو الحصول على معلومات على النطاقات الوطنية العربية؛ لكي نزود بها قاعدة المعلومات والبيانات العربية بطريقة محدثة باستمرارية تزويد الشبكة بمعلومات أحدث. وتنفيذ مثل هذه القاعدة ليس واجب الحكومات، وإنما كان يمكن لها أن تسهل قيامها بالمساعدة في تغذيتها بالبيانات، ووضع الأطر واللوائح القانونية لعمل مؤسسات وشركات المعلومات. وإذن فإن شركات خاصة هي التي تقوم بإنشاء الشبكات المعلوماتية وتتولى تغذيتها وتحديث معلوماتها ضمن إطار لوائح لا تخل بما تعتبره الدولة مساسا بالسيادة والأمن العسكري والاقتصادي. ولكن ما نتحرز منه قد حدث مرارا في الولايات المتحدة، فقد أمكن اختراق السرية رغم كل أشكال التأمين للمعلومات.

Unknown page