Misr Min Nasir Ila Harb Uktubir
مصر من ناصر إلى حرب
Genres
كنت معجبا بناصر بصورة واضحة. كان ثمة قوة ما وثقة تنبعثان منه. لم يكن الأمر هنا مجرد كرم ضيافة نتيجة للتربية أو لكونه رب البيت. كنت أشعر بالحماس يمور بداخله، بل والميل إلى الشجار في الحديث. كان على ما يبدو راغبا في كسب مشاعر الصداقة، وربما اختبار محدثه بأن ينعطف بحدة أثناء الحديث، ثم يرى إن كان محدثه سوف يشعر بالارتباك والحيرة.
في صيف عام 1970م، جاء ناصر إلى موسكو مرة أخرى للعلاج، وعندما استقبلته في مطار فنوكوفو أصابتني هيئته التي تشي بالمرض بالدهشة. كان ناصر عريض المنكبين، طويل القامة، متين البنية، لكن وجهه لم يكن بسمرته، وإنما كان شاحبا بدرجة ما، معتلا، وفي عينيه ألم دفين. كان عليه أن يبتسم وأن يصافح مستقبليه. لا أدري إن كان قد تعرف علي، أظن أنه لم يعرفني. ألقى نظرة علي، صحيح أنه صافحني، ابتسم، لكنه كان يبتسم للجميع.
إبان المباحثات التي جرت في الكرملين، كان ناصر يتصرف كما لو كان بين صحبة حميمة، بحرية وفي غير تكلف. كان يستجيب ببساطة للدعابة. كان يقظا، بل كان شديد اليقظة عندما يستمع إلى ما يقوله القادة السوفييت. أما عندما كان الأمر يتعلق بمطالبه فكان يستخدم المنهج التالي؛ كان يعرض في البداية الموقف الذي يمثل الأساس لأسباب هذه المطالب، وكان في سياق ذلك يتحدث بإخلاص يأسر النفوس، فيقول على سبيل المثال: انتبهوا، ليس لدي أسرار أخفيها عنكم. بعدها يكون الوضع على النحو التالي: لقد أخبرتكم عن الوضع برمته، والآن عليكم اتخاذ القرار. كان أسلوبا مرضيا في كثير من الأحيان، ولكنه كان يؤدي إلى نتائج جيدة. وفي الواقع كان هو الأسلوب الضروري في سياق هذه العلاقات الودية التي سادت بين الاتحاد السوفييتي ومصر في تلك الفترة، الإخلاص الحقيقي، وليس الرغبة في الحصول على أي شيء وبأي وسيلة.
تسنى لي أثناء المباحثات أن أرافقه في السيارة. كان الحوار معه شيقا دائما، حيث يتيح الفرصة للتعرف عليه كإنسان. لقد سر سرورا كبيرا عندما علم أن كلينا كان لديه في فترة الشباب نفس الولع برياضة كرة السلة، وأن لدينا في الوقت الحالي نفس الهواية وهي التصوير السينمائي. وقد اشتكى لي ناصر أنه لم يعد لديه وقت كاف لكي يقوم بتنظيم الأفلام التي التقطها، وهي المشكلة المشتركة التي يعاني منها كل هواة التصوير السينمائي.
ذات مرة، تطرق إلى الحديث عن إذاعتنا. قال: «لماذا تفتقد إذاعتكم المهارة في بث الأخبار الدولية؟ إنها تذيعها متأخرة وغير شيقة، والأهم أنها غير مؤثرة. كم تخسرون بسبب ذلك! إنني أحمل دائما معي راديو ترانزستور موجه دائما على الخدمة الدولية لبي بي سي. الإنجليز يذيعون الأخبار كل ساعة بإيجاز ووضوح لمدة من سبع إلى عشر دقائق؛ ولهذا فإن العالم بأسره يستمع إليهم. لماذا لا تدبرون أمر هذه الإذاعة؟ سيكون الأمر أكثر أهمية لو استمعنا إلى موسكو بدلا من لندن.»
وفي مناسبة أخرى طرح علي سؤالا، قال: «لماذا لا تريدوننا أن نتحدث علنا عن المساعدات العسكرية السوفييتية لمصر؟ إن أعداءنا يعرفون ذلك، فلماذا إذن لا يعرف أصدقاؤنا وأصدقاؤكم بشأنها؟ ما دامت هذه المساعدات معروفة لأعدائنا فمن الضروري أن يعرف أصدقاؤنا بها. أنا على يقين أننا نخسر سياسيا بسبب ذلك.»
أثناء وجوده في موسكو تلقي ناصر نبأ مصرع خمسة طيارين من بينهم طيارون سوفييت في مصر، أسقط الإسرائيليون طائراتهم. كان الأكثر إيلاما بالنسبة له، أن الحادث جاء نتيجة استخدام الطيارين الإسرائيليين لأبسط أشكال المناورات. بعبارة أخرى، فإن طيارينا والطيارين المصريين وقعوا في فخ بدائي. وكانت المسئولية في ذلك تقع على عاتق التوجيه الأرضي. لقد شعر ناصر بالألم الشديد جراء مصرع الطيارين. وكان يقول لي دائما إنه كان يعرفهم جميعا شخصيا، وإن مصر لا تمتلك الكثير من مثل هؤلاء الطيارين الأكفاء.
كان ناصر موجودا في موسكو للعلاج عندما انتهى التحليق القياسي لرائدي الفضاء نيكولايف وسيفوستيانوف في الفضاء الكوني. وقد تمت دعوة ناصر ومرافقيه إلى حفل استقبال كبير في قاعة جيورجيفسكي بقصر الكرملين الكبير. وفي هذا اليوم تلقيت اتصالا هاتفيا يفيد أن ناصرا يود أن ينعم على نيكولايف وسيفوستيانوف بأعلى وسام مصري وهو «قلادة النيل»، وأن يقلدهما هذه الأوسمة أثناء الحفل. وقد طلب مني أن أشرح هذا الموقف. وقد حاولت أن أرتب هذا الأمر مع المعنيين لكنهم جميعا كانوا يقابلونه بالرفض. كانوا يزعمون أن التكريم أمر ممكن أن يكون مقبولا، ولكن لا داعي لمنح الأوسمة في حفل يقام في الكرملين. وقد أبلغنا ناصر بذلك، ولكنه غضب وقال إنه لن يذهب إلى حفل الكرملين لأنه مريض. وهنا اضطررنا لإرسال سفيرنا سيرجي ألكسندروفيتش فينوجرادوف إلى بارفيخو، حيث يقيم ناصر؛ ليخبره مباشرة أن ذهابه أمر لا بد منه. وقد حضر ناصر حفل الاستقبال، والحقيقة أنه فعل ذلك بعد أن أمر ياوراه أن يحملا معهما الأوسمة على أية حال. وهكذا جاءا يحملان علبتين كبيرتين. حاولت أن أقنع القيادة المنوطة بتنظيم الحفل نفسه، شارحا لهم الموقف؛ إذ إن ناصرا كان يقف متأهبا في انتظار السماح له بتقليد الأوسمة للأبطال، وقد نجحت في ذلك، ولكنهم أخبروني أن الأمر سيتم بطبيعة الحال، ولكن بعد برهة.
منذ هذه اللحظة لم أر ناصرا مطلقا.
كان علي فقط أن أقوم بمهمة حزينة؛ أن أشارك في الوفد الرسمي الذي رأسه ألكسي كوسيجين لحضور جنازة ناصر، وفي نفس توقيت الوفاة تم تعييني سفيرا لدى مصر.
Unknown page