Misr Min Nasir Ila Harb Uktubir
مصر من ناصر إلى حرب
Genres
أنصت ناصر إلى حججي جميعا باهتمام، وكنت قد أعددتها مسبقا بطبيعة الحال. وفي نهاية حديثي أخبرته أيضا بقرب وصول وحدات عسكرية سوفييتية.
استغرق ناصر في التفكير، تريث ونظر إلي باهتمام مقطبا جبينه على نحو ما لبرهة لم تطل، ثم قال بعدها: «حسنا، موافق على وقف إطلاق النار على ألا يطول الأمر. فإذا لم يتخذ الإسرائيليون والأمريكيون خلال هذه الفترة خطوات عملية في اتجاه التسوية، فسوف نبدأ الحرب من جديد. وبالطبع لا ينبغي أن يعرف الإسرائيليون والأمريكيون بما دار بيننا من حديث. يمكنك أن تقول لهم إنه إذا أوقفت إسرائيل غاراتها في عمق مصر فإنك ترى أن مصر قد تشرع في وقف حرب الاستنزاف. أما إذا سئلت حول ما إذا كنت موافقا على ذلك فسوف أجيب بأننا لم نتحدث في هذا الأمر.» وهنا، انفرجت أسارير ناصر.
تنفست الصعداء (بيني وبين نفسي بالطبع)، فقد نجح التفويض بنسبة 100٪.
وطوال الحديث الذي استمر بيننا بعد ذلك راح ناصر يطور فكرة أن الصراع في الشرق الأوسط لا يعد صراعا بين الدول العربية وإسرائيل، وإنما هو في الواقع صراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وذكر ناصر أن الصراع العربي الإسرائيلي يبدو كما لو كان ناشئا عن هذا الصراع الأساسي العالمي بين السوفييت وأمريكا.
كان من الممكن بالطبع أن يؤدي قبول هذه الفكرة إلى استنتاجات خاطئة على المستوى النظري، فضلا عن المستوى العملي الخالص. وعلى الفور رحت أفكر لماذا طرح ناصر هذه المسألة: ترى هل طرحها لكي يختبر قناعاته الشخصية، وخاصة أن هذه المسألة التي طرحها بنفسه كانت رائجة رواجا كبيرا في الأوساط ذات النزعة القومية في مصر؟
قلت لناصر «إنني لا أتفق معه في أفكاره»، فنظر إلي دهشا، وقال: «هكذا؟!» ثم عرض علي أن أطرح وجهة نظري.
قلت إن الاتحاد السوفييتي ليس شريكا، ولن يكون، في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي هو صراع بين قوى التحرر الوطني، القوى التقدمية بقيادة مصر، والقوى الرجعية - إسرائيل - تدعمها الولايات المتحدة. وحيث إن الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع بين قوى التقدم والرجعية، فليس من المستغرب أن الاتحاد السوفييتي يدعم القوى التقدمية، بينما تدعم الولايات المتحدة الأمريكية بحكم طبيعتها القوى الرجعية. استمع إلي ناصر بانتباه تام وحاول أن يطرح حججا إضافية، ولكنه في النهاية وافق على ما قلته. وما زلت حتى الآن لا أعرف لماذا طرح ناصر هذه المسألة ليوافق في النهاية. صحيح أنه قال، في نهاية حديثنا، إن أحدا في مصر لم يعارضه حتى الآن، ولعلني الأول الذي فعل ذلك. قال ذلك في سياق الدعابة، ولكن الواضح أن قوله لم يكن على سبيل المزاح.
فيما بعد كانوا يقولون لي إن ناصرا كان راضيا عما دار بيننا من حديث وجدل. كان الرجل نفسه لا يحب أن يعارضه أحد بطبيعة الحال، لكن المحيطين به، وهم يعلمون عنه ذلك، اشتطوا في الأمر، فكانوا يردون دائما بالإيجاب وكان ذلك يثير غضبه.
بانتهاء الحوار، استدعى ناصر المصورين الذين قاموا بالتقاط عدد من الصور للذكرى، ثم رافقني حتى مدخل البيت وودعني بحرارة، ثم وقف معنا مرة أخرى أمام المصور. اقترح ناصر علي البقاء ثلاثة أيام أخرى لزيارة الأقصر وأسوان لمشاهدة آثار البلاد، حيث إني أزور مصر للمرة الأولى، لكني كنت مضطرا للعودة إلى موسكو ووعدته بالحضور مرة أخرى إلى القاهرة.
لم أتوقع بالطبع أن يقول لي محمد حسنين هيكل، بعد مرور ثلاث سنوات ونصف، وهو يتأمل هذه الصورة التذكارية وعليها توقيع ناصر: «لقد قال ناصر عدة مرات بعد سفرك: لا أفهم لماذا قدمت تنازلات كثيرة على هذا النحو لفينوجرادوف.» وأنا أيضا لا أعرف. لقد كانت تنازلات بالفعل، ولكنها كانت لصالح مصر نفسها.
Unknown page