Misr Min Nasir Ila Harb Uktubir
مصر من ناصر إلى حرب
Genres
في الثالثة من ظهر السادس من أكتوبر اتصل بي السادات على الهاتف العادي المباشر في مقر السفارة. كان أمرا غير معتاد. لم يتصل بي السادات مطلقا من قبل هاتفيا، ناهيك عن أن يتصل على الهاتف العادي، حتى إنني ظننت في البداية أن في الأمر لغزا ما. ولكن الأمر كان صحيحا. كان الصوت الذي أسمعه عبر الهاتف صوتا مألوفا ولكنه كان صوتا مفعما بالفرح والانتصار: «سفير (قالها بالعربية)، قواتنا الآن على الضفة الشرقية للقناة! ورايتنا الآن منصوبة على الضفة الأخرى!» هكذا بدأت الحرب.
كان السادات قد أوصى بوضع هاتف خاص بي في السفارة للاتصال الحكومي من طراز ذي أرقام محدودة خاصة بالمقربين. ولم يكن لدي وزير الخارجية نفسه مثل هذا الهاتف. كان كثيرا ما يتصل بي للتحدث في شئون العمل دون مراعاة للوقت، وأحيانا ما كان يتحدث في الثالثة بعد منتصف الليل. وكنت أبلغه بالأمور العاجلة والطارئة عبر هذا الهاتف. لكن معظم لقاءاتنا كانت ذات طابع شخصي بطبيعة الحال، وخاصة في تلك الأيام التي كانت تتاح له الفرصة أن يلتقيني فيها وجها لوجه دون حاجة للانتظار.
ما إن بدأت العمليات العسكرية حتى انتقل السادات للإقامة في قصر الطاهرة بمنطقة هليوبوليس. وكنت أقطع إليه المسافة بالسيارة في حوالي 25 دقيقة. كان السادات يرتدي آنذاك الزي العسكري، وكان يحاول أن يتحدث بشكل واضح وباقتضاب. عموما كان السادات يتميز بقدرته على صياغة أفكاره على نحو واضح ومعبر، وكثيرا ما كان ينتقل للحديث بالإنجليزية عندما يكون نافد الصبر، على الرغم من أنه كان عادة ما يفضل الحديث معي باللغة العربية من خلال مترجم. وقد كان المترجمون دائما من السوفييت؛ إذ لم يكن من بين المصريين مترجمون ثقات يجيدون اللغة الروسية. لم نكن بحاجة بطبيعة الحال إلى مترجمين عندما كنا نتبادل الحديث بالإنجليزية. كان السادات ينطقها بشكل جيد لا بأس به، وعلى الرغم من أن مخزون الكلمات لديه كان محدودا، إلا أنه كان يوظفه بشكل سليم. كان الحديث بالإنجليزية لمدة نصف ساعة تقريبا كافيا جدا بالنسبة له وإلا يتسلل إليه الملل بسرعة.
في لقاءاتنا الأولى كان لدى السادات قدر كبير من التحفظ تجاهي. وعندما اقتنع بالدعم المخلص النزيه والملموس من جانب الاتحاد السوفييتي، أصبحت علاقته بي جيدة للغاية، وأحيانا ما كانت الأمور تبدو في الواقع وكان عصرا جديدا من العلاقات بين البلدين قد تم تدشينه، وأن الرئيس كما لو كان قد تغير تماما. وقد أخبرني عدة مرات بنفسه أن صفحة جديدة رائعة قد بدأت في العلاقات بين بلدينا، وأن مصر مدينة لأبعد الحدود للاتحاد السوفييتي، وأنه «سيأتي اليوم» الذي سيحكي فيه عن هذه المواقف الشجاعة للاتحاد السوفييتي بملء فيه. الحقيقة أنني لم أتماسك عندئذ وسألته ولماذا لا يحكي الآن للجميع عن هذه المواقف التي اتخذها الاتحاد السوفييتي. لم يجب السادات وإنما نوه قائلا: «لا يزال الوقت مبكرا، ولكنه سيأتي.» من الواضح أن تصرفي كان غير متوقع بدرجة ما، حتى إنني أحسست أنه شوش على أفكاره بشكل أو بآخر، وإن كنت قد رأيت أن تصرفي قد حظي بإعجابه.
إبان العمليات العسكرية أحاطني السادات علما بالاتصالات التي قامت على الفور بينه وبين الأمريكيين. الحقيقة أن ما أمدني به من معلومات لم يكن موثقا، وإنما كان يقدم إلي من وجهة نظره فقط، أو بناء على عرض مساعديه لفحوى هذه الاتصالات، وعلى أي حال فقد كانت هذه المعلومات على قدر كبير من الأهمية. لم يكن السادات يتحدث إلي قبل ذلك بمثل هذه الصراحة، ومن بين المعلومات التي ذكرها أن الأمريكيين تقدموا إليه باقتراح أن يقوموا بخدمات الوساطة، على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية، في واقع الأمر، كانت تحارب مصر!
وقد لفت انتباه السادات إلى ذلك ونصحته بأن يقدم للأمريكيين اقتراحا بالتشاور مع الاتحاد السوفييتي، حيث بات واضحا في هذه الفترة إمكانية العمل السوفييتي الأمريكي المشترك فيما يتعلق بالصراع العسكري. لكن السادات لم يجب بشيء.
أصبحت العلاقات مع السادات جيدة إلى حد النجاح في الحصول على بعض المكاسب. بل إن السادات كان يطلب رأيي أحيانا في هذه أو تلك من الخطوات السياسية. وكان عدد من المقربين منه ينقلون إلي أن الرئيس «راض» للغاية عن السفير السوفييتي، وهو ما كان ينقله إلي أيضا بعض الذين كانوا يترددون عليه. كان ذلك في الواقع زمنا طيبا، على الرغم من أنني كنت أحصل على ساعات قليلة من النوم لا تتجاوز ثلاث أو أربع ساعات في اليوم، أما باقي اليوم فكان مليئا بالتوتر الشديد.
واستنادا إلى آراء الجميع، كان السادات يعلم على أية حال القليل عما كان يحدث في الواقع على الجبهة. وكثيرا ما كان يجيبني، عندما كنت أسأله عن آخر المعلومات، بقوله إنه لا يعرف شيئا حتى الآن، حيث إنه لم يتلق مؤخرا معلومات من مركز القيادة. في الواقع إنني كنت أخبره في بعض الأحيان بوقوع بعض الأحداث على الجبهة كان رفاقنا يحصلون عليها من الأركان العامة للجيش قبل أن تصل إلى السادات. لم يكن السادات يهتم أحيانا بأن يكون على علم بكل التفاصيل. كان الاتجاه العام لديه أن الحرب ليست شأنا عاما، وإنما هي، إذا جاز القول، مسألة احترافية، «عمل» يختص به العسكريون، وهؤلاء يعرفون ما يعملون وما الذي ينبغي عليهم عمله. وكثيرا ما كان يرد على أسئلتي بشان تصوراته عن سير الأمور بأن هذا من عمل العسكريين، وأنهم هم الذين يضعون الخطط والذين يعرفون كيف ينبغي عليهم تنفيذها.
وهذا ما حدث تماما عندما أحدث الإسرائيليون الثغرة في نهاية أكتوبر. لفت انتباه الرئيس إلى الثغرة وطلبت منه حرفيا سرعة تدخل قوات كبيرة للقضاء على هذا الوضع الخطير حتى لا يتحول إلى تهديد كبير، واستندت في ذلك إلى رأي الأصدقاء في موسكو. لكن جهودي راحت هباء. راح السادات يهدئ من روعي متحدثا بتلك النبرة الواثقة قائلا: «لا تقلق، قل لهم في موسكو أن يناموا في هدوء، إن عسكريينا يعلمون ما الذي ينبغي عليهم عمله.»
ما زلت أذكر جيدا كيف استدعاني السادات ليلة الحادي والعشرين من أكتوبر وتحدث إلي بالإنجليزية ليطلب مني أن أبلغ ليونيد بريجينيف على الفور ضرورة العمل على وقف إطلاق النار وقال لي: «إنني أستطيع أن أحارب إسرائيل، ولكنني لا أستطيع أن أحارب الولايات المتحدة الأمريكية.» كانت هيئته مثيرة للأسى، وكان زيه العسكري مكرمشا. أين ذهب مظهره الواثق وأقواله الحصيفة ونبرته السلطوية؟ لقد حدث بداخله على الأرجح شيء لا يمكن تصديقه؛ فهو الآن يطلب!
Unknown page