ولما جاء الوباء إلى مصر، كان «عثمان بك» في أول حكمه، فلما رأى الجوع الذي عقب الوباء، فتح مخازنه وخزائنه، وفرق الأقوات والأموال في الناس. ومع ذلك لم يستطع النجاة من مكايد ذوي المطامع، وفي مقدمتهم «إبراهيم وإسماعيل رضوان» الأول كخيا الإنكشارية، والآخر كخيا العزب، وكان كلاهما من المماليك. الواحد من طائفة الكزدغلية، والآخر من طائفة الجلفية، وأصل الطائفة الأولى مملوك يقال له: «الكزدغلي» كان سروجيا، وأصل الطائفة الثانية «أحمد الجلفي» كان في أول أمره شيالا، وأغناه الله بطريقة في غاية الغرابة، لا بأس من ذكرها وهي:
جاء بعض المماليك إلى إحدى معاصر الزيت ليبتاع مئونة بيته من الزيت مدة السنة، وكان «أحمد الجلفي» في تلك المعصرة، فابتاع المملوك الزيت، واستأجر «أحمد» فحمله وسار معه حتى بلغ بيته، فأنزل الحمل ووقف ينتظر أجرته، فجاءه المملوك وطلب إليه أن يساعده في إخفاء مبلغ من النقود في أحد جدران البيت، وألح عليه أن يكتم الأمر سرا، وأعطاه بضعة دراهم مكافأة لذلك، فساعده، وأخذ الدراهم وسار في سبيله حامدا شاكرا. وبعد ثلاثين يوما اتفق له المرور بالقرب من ذلك البيت، فشاهد جماهير متجمعة، ثم علم أن ذلك المملوك توفي وقد تركته للمبيع، فتقدم أحمد وابتاع البيت الذي فيه المخبأة، وبعد انفضاض الجمع استخرج النقود، وسار بها إلى قريته «جلف» في الصعيد وامتلك ممتلكات كثيرة.
ثم اتسعت ثروته، وما زال حتى أصبح زعيما لعصابة كبيرة نسبت إليه.
وكان «إبراهيم وإسماعيل رضوان» في بادئ الرأي على تباين كلي بالأدبيات والماديات: كان إبراهيم في ضيق من المعاش مع إقدام وبسالة ومطامع كبيرة. وكان «إسماعيل» غنيا بليدا لا يهمه إلا التمتع باللذات والشهوات. فكان إبراهيم في احتياج إلى إسماعيل ولذلك كان يتقرب منه. ثم تزوج «إبراهيم» ابنة «محمد البارودي» أحد التجار الأغنياء، وأخذ معها مالا كثيرا، فتمكن بذلك من التقرب إلى بيت شيخ البلد، وإلقاء المفاسد فيه بواسطة بعض المماليك والأتراك وغيرهم من ذوي الرتب، كان يستعملهم آلة لتنفيذ مآربه.
ثم تأتى له الارتقاء إلى رتبة البكوية مع صديقه «إسماعيل رضوان» فصار اسمه «رضوان بك»، واتحد الاثنان على السراء والضراء، ووحدا ممتلكاتهما، واجتزآ بالسواء في محصولاتها. فأوجس «عثمان بك» خيفة من سرعة نمو ثروتهما، وملافاة لما كان يخشى حدوثه من طموح أنظارهما ضم إليه ثلاثة أحزاب: أحدها حزب «إبراهيم بك القطامش» وفيه ثلاثة بكوات، والثاني حزب «علي بك الدمياطي» وفيه بيكان والثالث حزب «علي كخيا الطويل»، وشاورهم في الأمر فأقروا على قتل «إبراهيم بك»، وكان إذ ذاك كخيا الإنكشارية، و«رضوان بك»، فوافقوه على ما أراد.
وكان وكيله أحمد السكري من مماليك «إبراهيم بك» فلم يمكنه كتمان ذلك عنه، فجاء إليه وأخبره بجميع ما كان من التواطؤ على قتله وقتل رفيقه، فسار الحال إلى «رضوان بك» وأخبره وتشاوروا بشأن ذلك، فقررا نصب أحبولة يقتلان بها «عثمان بك»، فبعث إليه رجالا يترصدونه في طريقه إلى القلعة فمر ووثبوا عليه، ففر بجواده حتى دخل القلعة، ولم يظفروا به، فلاقاه وكيله وقد أضمر له الشر فسأله عما ألم به، فأخبره بما كان، فكلمه بلسان الثعلب ناصحا له أن يبرح المدينة حالا؛ لأن الناس قد قاموا يطلبون قتله، وما زال حتى أقنعه ففر إلى «سوريا» وسار هو معه حتى إذا دنوا من غزة تنحى أحمد عن الطريق واختبأ في قرية يقال لها الأشرفية، بحجة استطلاع الأحوال لحماية «عثمان بك» فتربص هناك مدة ثم عاد إلى «القاهرة» بمن معه من المماليك، وسار إلى «إبراهيم بك» وأعلمه بما فعله، فكافأه على تلك الخيانة برتبة البكوية، وهم الأهلون ببيت عثمان فأحرقوه، واقتسموا تركته.
أما هو فوصل «سوريا» وحده، وسار منها إلى الآستانة، فولي بورصة ولبث فيها حتى توفاه الله. وجميع هذه الحوادث توالت على «مصر» في أثناء سنة 1156ه. (3-2) إبراهيم كخيا ورضوان بك
فلما خرج «عثمان بك» من «مصر» صفا الجو «لإبراهيم كخيا» و«رضوان بك». فعملا على إبادة الأحزاب التي تآمرت عليهما فأخذ «رضوان بك» على نفسه قتل «علي كخيا الطويل». فأمر أحد مماليكه أن يقتله بالرصاص في وليمة حافلة، فلبى المملوك الأمر، لكنه أخطأ الرمي. وعوضا من أن يصيب «عليا» أصاب مملوكه الذي كان بجانبه، فقبض عليه وقتل للحال.
أما «إبراهيم كخيا» فتكفل لإهلاك من بقي من الأحزاب، وكان على ولاية مصر إذ ذاك «كيور أحمد باشا» فطلب إليه إبراهيم أن يوافقه على إبادة البكوات، فوافقه. وربما فعل ذلك، خوفا منه أو لأنه يعود عليه بالنفع الشخصي، واستعانوا بالنقود، فبذلوها فسهلت مشروعهم حتى قتلوا «علي بك الدمياطي» بيد وكيله «سليمان» في وسط الديوان. وقد وعدهم هذا بتسليم رءوس البكوات الآخرين من أحزابه. فأمر «إبراهيم كخيا» و«رضوان بك» أن تقفل جميع منافذ القلعة على من فيها من البكوات المنوي قتلهم، وجعلا على بابي الإنكشارية والعزب جندا، وحافظ «سليمان» على وعده، فبوشرت المذبحة وأول من قتل فيها «خليل بك» من دعاة «الدمياطي » و«محمد بك» من دعاة «قطامش» وكثيرون غيرهم.
وحاول «علي بك» و«عمر بك البلاط» الفرار، فتبعهما الباشا بنفسه. ثم لاقاهما «إبراهيم» و«رضوان» وقتلاهما عند باب القلعة، ولم يدفن من القتلى إلا «محمد بك» و«خليل بك».
Unknown page