نعم، وكنا نجهل أن مظهر صاحبنا ذاك، لم يكن إلا كثيبا من هذا الرمل السهل اللين، الذي تغوص فيه الأقدام، ويعبث به أيسر النسيم، وأن في هذا الكثيب المهيب حية تهدأ فتحسن الهدوء ما جنها الليل، ثم تسعى فتحسن السعي ما أضاءت لها الشمس، وهي في أثناء سعيها وهدوئها موفورة السم، حديدة الناب ... تأزم فتحسن الأزم، ولا يدنو منها أحد، إلا أصابه من سمها حظ موفور.
وإنه على ذلك لعذب اللفظ، لين القول، حلو الحديث، خلاب جذاب، يروق مظهره، ويروع مخبره، ويشقى به القريب منه، والبعيد عنه. •••
حية، وكلب، وديك. هؤلاء هم أصدقاؤنا القدماء. فابك إن كنت خيرا، واضحك إن كنت شريرا، وارسم على ثغرك ابتسامة حزينة مرة، إن كنت شيئا بين الخير والشرير، وثق على كل حال، بأن أصدقاءنا هؤلاء، لم ينفردوا بما كتب عليهم من المسخ، وإنما هي محنة عامة، يمتحن الله بها هذا الوطن البائس في كثير من بنيه.
وقد تسأل عن مصدر هذه المحنة، وأصل هذا البلاء، فاعلم أنه الانتقال السريع، يفسد بعض النفوس، ويغير بعض الأخلاق، ثم لا يلبث أن يمضي بخيره وشره، وأن يرد الشعوب إلى حياة ملائمة لطبائع الأشياء، يكثر فيها الناس الذين يتقمصون أجسام الناس، ويقل فيها الحيوان الذي يتصور في صورة الإنسان.
أما بعد، فإن في مدينتك الجميلة حدائق للحيوان، تستطيع أن تنزه فيها عينك، وعقلك، ولكن حدائقك كلها - على كثرة ما فيها من الغرائب والطرائف ونوادر الأنواع - لن تقدم إليك كلابا، وديكة، وحيات، في صور الناس، فإذا لم يشق نفسك وطنك العزيز، ولم يدفعك الشوق إلى الرغبة في عبور البحر، فلا أقل من أن يدفعك إلى عبور البحر ما يكتظ به وطنك من هذه الطرائف والغرائب، والنوادر التي تمرح على ضفاف النيل، وتستظل بظل الأهرام.
أمقبل أنت لتشهد من قريب، أم قانع أنت بما يأتيك من بعيد ...؟
صرعى
أتذكر قول زياد - رحمة الله - في خطبته المشهورة لأهل البصرة: «وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي.»
فإن هذه الجملة الخالدة لم يعرب بها زياد عن ذات نفسه، ولا عما كان بينه وبين أهل العراق من صلة، ولا عما كان قد رسم لحكمة من سياسة عنيفة، ولا عما كان قد فرض على نفسه من الحزم والعزم في تدبير أمور الناس، وحملهم على الجادة راضين أو كارهين. لم يعرب زياد بهذه الجملة عن هذا كله فحسب، وإنما أعرب بها عن شيء أعم وأشمل من سلطانه، وأبقى وأخلد من سيرته عن شيء يتصل بحياة الناس جميعا، ويؤثر في أعمالهم جميعا، بل في آمالهم جميعا، عن شيء وجد منذ وجد الإنسان، وسيبقى ما بقي الإنسان، ولن يزول حتى يرث الله الأرض ومن عليها. عبر زياد عن هذا الغرور الذي يدفع الناس إلى أن يعملوا، ويدفع الناس إلى أن يأملوا، ويفسدوا على الناس أعمالهم وآمالهم، ويرديهم آخر الأمر في هوة عميقة غير ذات قرار من البؤس واليأس والقنوط.
لست أدري أيهما استعار من صاحبه هذه الجملة الخالدة التي تصور الموعظة البالغة. أترى أن زيادا قد استعارها من الغرور، الذي كان يلقيها على الناس، وظل يلقيها على الناس في كل لغة، وفي كل بيئة، وفي كل عصر، وفي كل جيل؟ وأية غرابة في ذلك؛ فالخطباء المتفوقون، والكتاب المبرزون، والشعراء الملهمون تتصل أسبابهم بأسباب المعاني الخالدة، فيستعيرون منها ما يشاءون، ويستهدون منها ما تنطلق به ألسنتهم، وتجري به أقلامهم، فيبقى بقاء الدهر، ويتصل اتصال الزمان، أم ترى أن الغرور كان يعظ الناس كما يستطيع، ثم أتيحت له هذه الجملة الخالدة من خطبة زياد فاتخذها لنفسه رمزا، وساق فيها موعظته الخالدة إلى القلوب، والنفوس، والعقول ...
Unknown page