Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
77

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

بيد أن الأمور جرت خلاف كل التوقعات واستعاد النظام سيطرته على أجزاء كبيرة من البلد، وبدأ بحملة قمع شديدة مماثلة تقريبا في قسوتها لحملة مشابهة جرت في السنوات الأولى للحرب، لكن هذه المرة لم تستغرق هذه الحملة سوى أشهر قليلة، ومع ذلك خلفت آلاما عظيمة وضحايا بأرقام مرعبة. وبعد أن أخذ النظام تفويضا غير علني من القوات الأمريكية بقمع الانتفاضة الشعبية بالسماح له باستخدام الطيران العمودي واطمأن إلى أن هذه الحملة العسكرية الجبارة التي دمرت كل شيء في البلد لن تستهدف السلطة القمعية ورأسها، بدأ عملية استرجاع النظام لسيطرته الكاملة على معظم المدن التي انشقت عنه في عمليات عسكرية وحشية خلفت رعبا عظيما وفزعا كبيرا بين الشعب، وموتا انتشر في صحاري وسهوب ووديان وجبال الوطن الذي تحول إلى محرقة ومقبرة هائلة. حينئذ انقلب التفاؤل الكبير الذي كان يظهر على وجوه السجناء وفي كلماتهم إلى تشاؤم أكبر منه.

في صباح يوم - وبينما كان السجناء في الأقسام المفتوحة يتجولون في ساحة كبيرة مخصصة لهم بحجم مساحة ملعب كرة القدم - صعد على سطح السجن رجال مسلحون ببنادق قنص، وصدر أمر لجميع السجناء بواسطة مكبرات صوت يدعوهم إلى الدخول فورا إلى الأقسام، وحذر بأن من يتخلف عن الاستجابة الفورية يعرض نفسه لخطر الموت. كان طلبا يستحيل تنفيذه بالسرعة التي طلب بها وفوجئ السجناء برصاص حي يوجه لهم من قناصة متهيئين لعملية قتل عشوائي مما أردى بعضهم في الحال، وهام السجناء يجرون في كل الاتجاهات لا يعرفون أين يختبئون ولا بمن يستجيرون. ثم بدأ هجوم كبير عليهم من قوات أخرى كانت على أهبة الاستعداد ومتهيئة للقيام بعملية انتقام كبيرة، وعاد الرعب من جديد يخيم بمشاهد التعذيب الانتقامي والقسوة المفرطة.

استمر الحال هكذا لعدة أسابيع، رعب وخوف يطبق على الأنفاس، وفي الليل تشن غارات أمنية على السجن من قبل قوات أمنية لا يعرف لصالح أي جهة أمنية تعمل، وفي كل مرة كان يتم اختطاف مجموعة من السجناء المعروفين بنشاطهم العام، مجموعة تلو الأخرى واقتيدوا إلى معسكر الرضوانية حيث جرت فيه تصفية المعارضة المنتفضة وهناك اختفوا إلى الأبد، ولم يعثر على أي أثر لهم بعد ذلك إلى يومنا هذا.

كان تنفيذ الاعتقال يتم بطريقة تدخل الهلع والفزع في قلوب السجناء، ويطبق صمت كامل حين تدخل مجموعة من الجلادين ليبدأ أحدهم بقراءة مجموعة من أسماء سجناء مطلوبين ثم يقتادونهم مكبلين معصوبي الأعين في اعتقال جديد. وسمعنا - فيما بعد وقت ليس بالقصير - قصصا مرعبة عن تصفية المتهمين بالمشاركة في الانتفاضة الشعبية، وآخرين كانوا في معسكر الموت هذا، بعد أن عاد بعض السجناء أحياء من هذا المعسكر الرهيب. كما سمعنا تفاصيل عن حوادث قتل عشوائي كانت تجري بإشراف أكبر الشخصيات المتحكمة بزمام الحكم في البلد، ومنها هذه القصة التي أنقلها بإيجاز مخل لقسوتها: «أحد أركان النظام (ح. ك) كان يشرف شخصيا على عمليات التعذيب، وهو شخص مشهور بقسوته، وشغل مناصب حكومية رفيعة، وقف على رأس مجموعة معتقلين في هذا المعسكر وبعد أن تعرضوا لحملة تعذيب في تحقيق وحشي أمام عينه، طلب منهم بأن يديروا ظهورهم له ويسيروا قائلا لهم: «سوف أطلق الرصاص، ومن تصيبه الرصاصة ويموت فهو مجرم خائن.»

وبدأ يصطادهم واحدا تلو الآخر بمسدسه الشخصي، ولم ينج منهم إلا قليل حالفه الحظ وقتها، لكن القاتل لم ينج، فبعد أعوام قليلة - فقط - ذبح هو وشقيقه ووالده وهدم داره من قبل نفس النظام وبأمر مباشر من سيده الذي اتبعه كالكلب الوفي طوال عمره.»

سمعنا بهذه القصص المرعبة بعد وقت طويل؛ لأن من كان يعود من هذا المعسكر يعود صامتا لا ينبس ببنت شفة عن سبب اختطافه واحتجازه في هذا المعسكر الرهيب ولا يتحدث عما جرى هناك، بل يرجع مقلا إلى حد كبير في أحاديثه الخاصة والعامة، ولا يتكلم إلا بحدود الحاجة. كان يبدو واضحا أن العائدين من هذا المعسكر الرهيب تعرضوا لصدمة نفسية هائلة، أفقدتهم القدرة على النطق وأزاحت الثقة منهم بكل أحد، لذلك لم يجدوا من يبثون إليه حزن تلك الصور الرهيبة التي شهدوها، واختاروا الانطواء والانعزال والتقوقع في مشهد كان يثير الرعب فينا، وربما حتى أكثر مما كان في تلك الصور نفسها من قسوة، وهكذا يفعل الرعب والخوف بصاحبه.

20

بعد مرور عدة أسابيع، وبعد أن أخمدت الانتفاضة تماما، توقفت هذه الإجراءات القاسية، وبدا أيضا أن النظام أضحى واقعا تحت ضغط دولي كبير للإفراج عن السجناء السياسيين في جملة ضغوط واسعة مورست لتجريده من قوته، بل تجريد البلد من كل شيء في مخطط كبير وعميق لهدم الدولة العراقية بالكامل، والسير بها وئيدا نحو مرحلة الدولة الفاشلة في عملية طويلة استغرقت عقودا. حاول النظام تفادي الضغط، وفي خطوة ترضية وتهدئة شعبية ودولية في الوقت عينه، أصدر عفوا عاما عن السجناء السياسيين بمناسبة يوم ميلاد الطاغية، الذي كان يحتفل به رغم كل الهزائم والجراح والجوع والموت المنتشر في أرجاء البلاد. إلا أنه - وبرغم كل هذه الضغوط - لم يطلق سراحنا - كما هي العادة في كل عفو كان يعلن عنه طوال عقد الثمانينات - واكتفى بإطلاق سراح السجناء السياسيين من الأقسام المفتوحة فقط. ورغم مرور عدة أشهر على وعوده بإطلاق سراح كل السجناء السياسيين لم تظهر أي بوادر على ذلك، وصرنا نظن أننا سوف نواصل حياة السجن كالمرات السابقة حتى مع هذه التطورات الدراماتيكية في البلد.

في هذه المرة كما في مرات سابقة تعرفنا على أسماء وأرقام المواد التي حكم بها علينا، وكانت أول مرة نتعرف بها على أرقام المواد القانونية التي حكمنا بها عندما صدر أول عفو رئاسي. أي من المعتقلين لم يلق بالا لما كان يثرثر به القاضي في المحكمة الصورية في قرار الحكم؛ لأن جو السخرية والاستهزاء واللامبالاة من هذه التمثيلية السخيفة والمحاكمة الصورية كان يسيطر على الأجواء. كان القاضي يحاول أن يظهر نفسه مع المحامي والمدعي العام كأنهم في محكمة حقيقية، وكأن التهم حقيقية تسندها أدلة قاطعة وبراهين ثابتة، وأن ما جرى هو تحقيق قانوني عادل وأن الدفاع قد بذل جهده واطلع على الملفات وفحصها بعناية وإخلاص، وليس أن الأمر كله كان عبارة عن تهم جزاف تلقى بلا أدنى دليل ولا برهان، وأن التعذيب الوحشي كان الوسيلة الوحيدة لانتزاع الاعترافات، وكثير من التهم كانت غير حقيقية كما هي الاعترافات، ولا أن القاضي والمدعي العام ومحامي الدفاع كلهم طالبوا بالموت للمتهمين، وكانوا يقفون في خندق واحد بالعداء السافر أمام معتقلين لا دليل عليهم سوى تهمة ألقيت عليهم بناء على شبهة، واستنادا إلى شكوك وظنون وتقارير وشاة ومخبرين.

وهل كانت المحاكمات أصولية حتى نقيم لها وزنا أو تلفت انتباهنا؟ ولماذا نعير انتباهنا لما يتفوه به حاكم عسكري تلقى الأوامر عليه بإصدار أحكام لا رأي له فيها ولا قرار؟ ألم يكن مجرد بوق ينقل صوت طاغية يحكم بالحديد والنار؟ جل السجناء كانوا لا يميزون بين مادة وأخرى، بل ولا يعرفونها أساسا للأسباب التي ذكرتها، حتى جاء أول عفو رئاسي في منتصف الثمانينات تقريبا، وبدأت وقتها حملة لإخراج بعض السجناء من الأقسام المغلقة إلى الأقسام المفتوحة، تمهيدا للإفراج عنهم. وجاء وقتها رجال الأمن يسألون عن أسماء السجناء وأرقام المواد التي حكموا بها لإعداد قوائم إدارية تنظم عملية إطلاق سراح المشمولين بالعفو.

Unknown page