Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
75

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

سوف أقدم وصفا مختصرا لحالة الازدهار التي عشناها لسنة تقريبا؛ من خلال هذه الزنزانة التي أصبح لكل واحد منا فيها له بطانيته الخاصة، وصار من الممكن أن يستحم أحدنا في كل يوم تقريبا، وحتى حصلنا على مبردة هواء صغيرة جلبها أهلي لي؛ لأننا لم نكن نملك مروحة هوائية في هذه الزنزانات الصغيرة كما كان في الزنزانات الكبيرة. وصار عندي مكتبة خاصة صغيرة مؤلفة من عدة كتب، ورجعت إلى مطالعة الروايات وكتب أخرى كانت تقع بيدي من سجناء آخرين كنت أتبادل الكتب معهم أو أستعيرها منهم. أحتفظ بأوراقي الخاصة في كراس وأدون عليه أفكاري، وحصلت على مذياع صغير خاص بي حرصت على الاستماع عبره بشكل منفرد وباهتمام كبير لكثير من البرامج السياسية والثقافية ونشرات الأخبار. إلا أن هذا كله انهار في ساعة الغزو وأصبحت أجرجر أغراضي وأدور بها مثل متشرد هائم على وجهه ليس له من مأوى يركن إليه ولا مضجع يستلقي فيه، وكان من الغريب أن تظهر نوازع أنانية عند عدد من السجناء الذين رفضوا التخلي عن وضعهم المريح نسبيا بسبب التحسن الأخير الذي طال الجميع، لم يرضوا باستقبالنا أو السكن معهم من جديد في الزنزانات وتقاسم المحنة المؤقتة، صرنا ندور تائهين حيارى يبحث كل واحد منا عن مأوى يبات فيه ليلته أو يجد موضعا يركن إليه مع عفشه المتواضع. لم نجد من بد بعد أن وصلنا إلى آخر النهار إلا أن نتجمع في ساحة شبه مفتوحة في أحد الأقسام، ونقضي ليلتنا هناك، بل ليلتين وثلاثة نهارات كاملة إلى أن فتح قسم جديد احتوانا واحتوى درسا جديدا عن عيوب نفس أزاحت الستار عنها ريح خفيفة للغاية.

18

مع اندلاع حرب الخليج الثانية، تزعزع الأمن وغابت الخدمات العامة بشكل شبه تام عن سائر البلد بسبب ضربات جوية عنيفة وقاسية تعرض لها البلد، وفي هذا الوضع بدأت أفكار الهروب تراود السجناء وصار بعض منهم يخطط لذلك بشكل متكتم عليه بشدة بالغة. وتمكن بعضهم من اختراق الأسوار العالية وعبور خنادق تحيط بالسجن مملوءة بمياه آسنة وتجاوز أسلاك شائكة مكهربة فقدت كثيرا من مناعتها وحصانتها مع ضياع الطاقة الكهربائية بسبب استهداف محطات الطاقة من قبل قوات التحالف الأمريكي-العربي الذي شن هجوما مدمرا على كل المرافق الحيوية المدنية في البلد في خطوة لم نفهمها وقتها، وكانت موضع تساؤل كبير؛ إذ لم يكن الربط بينها وبين تحرير الكويت ممكنا أبدا ولا مفهوما.

أول حوادث الهروب من السجن الرهيب والمحصن جيدا كانت من الأقسام المغلقة، في عملية جريئة هرب شخصان كان لهما خصوصية ومحسوبان على الأقسام المغلقة، وإن كانا بالحقيقية ليسا من السجناء، بل من المحتجزين دون توجيه تهمة لهما. مثل هؤلاء المحتجزين كان يوجد الآلاف منهم، بل عشرات الآلاف في أماكن شتى من البلد، سمعت قصصا رهيبة عن مواقع الاحتجاز هذه التي تقع في الصحراء في جنوب العراق، وعن المعاملة القاسية للعوائل من نساء وأطفال، وكيف كان يتم كل فترة بشكل دوري اختطاف مجموعة منهم بلا تمييز ليساقوا إلى مقابر جماعية سوف يتم اكتشافها كل حين في سنوات طويلة لاحقة وسط صمت ولا مبالاة يلف الحكومة والشعب وأوساط دعاة الثقافة والدولة المدنية وحقوق الإنسان ورجال الدين والأحزاب السياسية، ربما يمكنني الحديث عنها في كتاب آخر غير هذا مستقبلا رغم كل الألم الذي يسكن فيها.

كان الهروب الأول هروبا ذكيا جرى التخطيط له مع سجينين آخرين من الأقسام المفتوحة، وأحدث الهروب مفاجأة مدوية في السجن، وأذهل السجناء والإدارة معا، ولولا ظروف الحرب وارتباك سلطات الحكم آنذاك لكان رد الفعل قاسيا جدا ولوقعت بسببه عقوبات كبيرة يمكن لها أن تتحول إلى مجزرة، وبالمقابل لولا ظروف الحرب أيضا لما كان بإمكان أحد الفرار ولا حتى محاولته، بل ولا التفكير به أبدا.

عند كل شفق كان يجري تعداد للسجناء بإجراء روتيني يومي لا تتخلف عنه إدارة السجن أبدا للتأكد من وجودهم بإحصاء كامل عددهم، ومن ثم تقفل جميع أبواب الأقسام وفي الضحى تفتح الأبواب ثانية ليخرج السجناء في ساحات صغيرة متجاورة أحدها ينفذ على الأخرى وينهمك كل منهم بأمر ما يستهويه. بعض منهم كان حيويا مرحا نشطا قوي الإرادة، لم تقدر كل سنوات السجن الطويلة ولا العقوبات الصارمة أن تفت من عضده أو أن تسلبه إرادته، ولا أن تخلي قلبه من الشجاعة ولا عقله من البصيرة والحكمة، فيما آخر غدا ذا مزاج قاتم مظلم يسير منعزلا منفردا بمنأى عن الآخرين وبمنجى من الحوار وأسئلة متطفلة قد تجره إلى بث مكنوناته، يجترها وحده لتنعكس على وجهه حزنا وأسارير عابسة وصمتا على مدار ليله وطوال نهاره، لتفعل به أحزانه أضعاف ما تفعله ظروف السجن القاسية نفسها. هذا وذاك، كل واحد منهما ينهمك في عالمه فبعض يمارس الرياضة، وآخر يجلس تحت شمس الصباح الباردة يقرأ كتابا، ويتجمع آخرون في حلقات حوار ودردشة، وآخرون ينهمكون في صناعة أشياء يدوية، وآخرون يقفون وحدهم كأنهم جثث هامدة تنتظر الدفن.

في ذاك الصباح، وبينما الكل منشغل بعالمه الخاص، وإذا بصوت الحرس ينادي لتعداد على عجل وإخلاء الساحات والدخول إلى الأقسام فورا. شهد السجن حركة غير عادية وضوضاء وجلبة من الحرس حتى بعد أن تم التعداد الاستثنائي غير مفهوم الأسباب، أقفلت الأبواب في خطوة غير مفهومة إلى أن انجلت الغبرة بعدها لنكتشف أن مجموعة من السجناء قد هربت؛ اثنان من الأقسام المغلقة وآخران من الأقسام المفتوحة. تم اكتشاف ذلك بعد أن أبلغ نزلاء الزنزانة إدارة السجن عن اختفائهما من ليل البارحة، وكانوا يظنون أنهما يبيتان في زنزانة أخرى مع أصدقاء لهم؛ لأن أبواب الزنزانات كانت مفتوحة طوال النهار والمبيت يحصل أحيانا رغم أنه لم يكن مسموحا به.

هذا الهروب الجريء فتح بوابة الهروب أمام آخرين وكسر حاجزا نفسيا مهما، وكشف عن ضعف الدولة وقتئذ، وبالفعل نجح أكثر من شخص بالهروب بعدها. بعض محاولات الهروب كانت مغامرة شيقة تصلح لأن تكون فيلم حركة مثير على الطريقة الهوليودية. ومنها حادثة مثيرة حصلت بعد تزايد حالات الهروب من خلال إحداث فتحات في السور الداخلي للسجن، والعبور بعدئذ من فوق السجن الخارجي بتسلقه بواسطة حبال تصنع داخليا بطريقة محترفة؛ لذلك قامت الإدارة بتعزيز الحراسة على أبراج المراقبة وعلى الأسوار الخارجية بعناية كبيرة، وأصبح العبور على السور صعبا جدا إن لم يكن مستحيلا؛ لأن كل نقاطه أصبحت تحت الأنوار الكاشفة وتحت مراقبة مشددة في الليل، الوقت المثالي لعمليات الهروب.

إلا أن أحد السجناء استطاع الهرب بمفرده وبدون مساعدة من أي أحد، ونفذ عملية فراره بخطة جريئة أبهرت الكل. وجد هذا السجين - المنحدر من عائلة كردية تسكن منطقة جبلية بعد مراقبة طويلة ودقيقة - أن النقطة الوحيدة التي لا تسلط عليها الأنوار الكاشفة تقع تحت برج المراقبة تماما، وتبقى منطقة مظلمة دائما وتشكل زاوية عمياء على الحرس القاطنين فوقها، ويستحيل أن يصدق أحد أن من يحاول الهروب فسوف يجازف بالصعود إلى أكثر النقاط تحصينا ويجعل من برج الحراسة نفسه ممرا لعبوره إلى الضفة الأخرى من سور السجن الخارجي. وبالفعل ألقى بحباله المتينة إلى هناك، وبدأ التسلق من تحت هذه النقطة تماما من تحت برج المراقبة، ليرتقي السور بخفة ورشاقة وهبط إلى الجهة الأخرى، فيما كان الحرس متيقظين طوال الوقت ينظرون إلى كل الزوايا، ولم يدركوا أن هروبه كان من بينهم إلا بعد أن عثر على الحبل في نهار اليوم التالي، وهو ما يزال متدليا من الدعامات الحديدية التي يستند إليها برج المراقبة تلوح به الرياح، كأنه يسخر من غباوتهم ومن خططهم الفاشلة. اختفى السجين الهارب تماما عن الأنظار من يومها ولم يعثر عليه أبدا لا من قبل قوات الأمن ولا من حرس السجن ولا أي جهة أمنية أخرى.

بسبب هذا الضعف الأمني السافر بدأ السجناء يفكرون بمحاولة هروب جماعي، وجرى الاستعداد لهذه المحاولة والتخطيط للسيطرة على السجن ليلا، بافتعال حادثة شجار واستدراج الحرس لها ومن ثم اعتقالهم والوصول إلى مفاتيح السجن وفتح الأبواب أمام جميع السجناء، إلا أن الفكرة ألغيت بعد ذلك لتسرب نية الهروب إلى إدارة السجن فأحبطت العملية. تراجع منظمو هذه المحاولة عنها في اللحظة الأخيرة لحسن الحظ؛ لأنها كانت تحمل كثيرا من العشوائية والارتجال، وكان يمكن أن تؤدي إلى مجزرة حقيقية إلا أني - وبصراحة - كنت متحمسا لها في ساعتها.

Unknown page