Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
رفض السجناء الدخول إلا أن رجال الأمن كان يبدو جليا عليهم أنهم يتحركون بتعليمات محددة، ملخصها إجبار السجناء على الدخول القسري وإيقاع أذى شديد بهم إن بدا منهم أدنى احتجاج، في مسعى واضح لاستعادة زمام المبادرة التي فقدت منهم منذ الاحتجاج الكبير. تحول الرفض إلى شجار بالألسن ومن ثم تطور سريعا إلى اشتباك بالأيدي، ليندفع السجناء بشكل جماعي لنصرة أصحابهم نحو رجال الأمن الذين هربوا مذعورين من الثورة الجماعية. المقذوفات نزلت على رءوس رجال الأمن من كل حدب وصوب بأي شيء كانت تطاله أيدي السجناء، وتحول السجن إلى فوضى حقيقية لا يعرف رجال الأمن أين يختبئون ولا بمن يستنجدون، تشتت شملهم حتى إنهم باندفاعتهم السريعة إلى باب القسم الرئيسي نسوا صاحبا لهم وخلفوه بين أيدي السجناء الذين وضعوا سطلا في رأسه ليمنعوه من رؤية الوجوه وأشبعوه رفسا ولكما وركلا، وهو يركض باتجاه الباب الرئيسي، وهناك علق بين الطرفين؛ رجال الأمن يحاولون إغلاق الباب الخارجي خوفا من اندفاعة السجناء إلى الخارج، وهو يقاتل لأجل فتحه والإفلات من قبضة السجناء، وصار يتلقى الضربات من السجناء تأديبا له ومن رجال الأمن الذي خالوه سجينا يحاول اقتحام الباب والهرب، فصاروا يضربونه بعصيهم وهو يصرخ بهم طالبا النجدة، إلى أن تعرف عليه أحدهم من صوته وأنقذه بعد أن نال عقابا لا ينسى. دب الفزع بين رجال الأمن ولم يكتفوا بإغلاق الباب المحصن بالأقفال الثقيلة، بل استدعوا حدادا على وجه السرعة؛ ليغلق الباب المحصنة بواسطة اللحام وصار اقتلاعه أو فتحه أمرا مستحيلا.
استدعيت كل قوات حرس السجن وقوات إضافية على الفور، ودخلوا في أقصى حالات التأهب لبدء معركة حقيقية؛ لأن السجناء في هذه المرة سيطروا فعلا على القسم. كان العدد في كل قسم يربو على الألف سجين وجميعهم أحرار في الحركة داخل القسم بلا أي حواجز بعد أن تركت أبواب الزنزانات مفتوحة. بدأ رجال الأمن بإطلاق الرصاص الحي على جدران القسم من الخارج، إلا إنه لحسن الحظ؛ ولأنهم من قبل لم يتركوا أي فجوة في تلك الجدران المبنية بصورة محكمة لا يخترقها شيء، خاب رميهم وفشل مسعاهم في إصابة أي شخص. أما السجناء فقد انبطحوا جميعا إلى الأرض يتقون الرمي الأعمى بدرع الجدران الكونكريتية المسلحة القوية.
لم يتوقف رجال الأمن عن محاولاتهم؛ إذ صعد رجال مكافحة الشغب إلى نقطة عالية في سطح السجن ومن خلال فتحات تهوية على علو شاهق تطل على الممر بين الزنزانات، ألقوا قنابل مسيلة للدموع، لكن لم يفت هذا في عضد السجناء وواصلوا الهتاف عاليا بصرخات الاحتجاج، واستعان السجناء بالماء والبصل وبطرق بدائية أخرى لمكافحة تأثير الغازات المسيلة للدموع.
سيطر الرعب تماما على رجال الأمن؛ لأن السجن كله صار الآن يسمع الفوضى وسرت عدوى الانتفاضة إلى أقسام أخرى من السجناء السياسيين في الأقسام المفتوحة، وأصبح السجن برميل بارود حقيقي يوشك على الانفجار في أي لحظة. ولم يستقر الموقف الهائج إلى أن جاء وفد حكومي عالي المستوى لمعاينة السجن بإيفاد خاص من جهات عالية في الدولة مفوضا بصلاحيات واسعة على ما يبدو.
طلب الوفد من السجناء الأمان للدخول إلى القسم وإجراء مفاوضات معهم، وهنا كانت براعة السجناء ومهارتهم العالية في التفاوض ؛ إذ إنهم ردوا عليه ردا كان خطوة واسعة بإقناع الوفد الرسمي، وأجابوه بأنهم هم من يطلب الأمان، وإن الوفد له كامل الحرية باعتباره هو المسئول عن تحقيق النظام بالدخول إلى السجن واتخاذ الإجراء المناسب. كان ردا فاجأ الوفد؛ إذ إن ما نقل إليه على ما يبدو، أنه تمرد ومحاولة للسيطرة على السجن.
عندما دخل الوفد إلى القسم زاد استغرابه من الهدوء الكبير وأن لا وجود لأي آثار معركة؛ إذ قام السجناء بتنظيف القسم بسرعة بمبادرة ذكية اقترحها أحدهم لإبطال دعوى سوف يدعيها رجال الأمن بأنهم هوجموا من قبل السجناء. ولما لم يجد الوفد شيئا ظلوا يتبادلون النظرات فيما بينهم في شعور واضح بأنهم قد ضللوا من قبل رجال الأمن. ظل الوفد يجول على الزنزانات التي دخل إليها السجناء طوعا ويستفهم منهم عن سبب الصياح والمشكلة؛ فشرحوا له بنفس واحد أنهم يعيشون ظروفا معاشية قاسية، وأنهم يطالبون بتحسينها من تغذية وصحة والسماح لهم بمواجهة أهاليهم ورؤية الشمس بعد كل هذه السنوات.
أصر الوفد على التعرف على المطالب السياسية وحاول استدراجهم لذكر أي منها، أنكر السجناء أي مطلب لهم، بل قالوا له: نحن سجناء محكومون وفق القانون، ونطالب بحقوقنا كسجناء فقط لا أكثر من ذلك. ولما اطمأن الوفد أن لا مطالب سياسية تقف وراء الاحتجاج وأن لا وجود لحركة معارضة للحكومة - رغم محاولة الضابط المسئول عن السجن تدبير تهمة التظاهر السياسي، لكنه أحبط تماما أمام براعة السجناء في إدارة الأزمة الذين عاملوا الوفد باحترام كبير وأدب جم مما أعطى الوفد انطباعا مغايرا، بأن المطالب الحقيقية هي مطالب معيشية فقط؛ لذا قال في الحال: إن هذه حقوق لكم وليست مطالب، وسوف تنفذ على الفور.
توافق حصول هذه الأحداث مع قرب انتهاء حرب الخليج الأولى وبروز توجه حكومي نحو تخفيف القبضة الحديدية، وبدأت إدارة السجن بالفعل بتنفيذ الوعود الحكومية بسرعة وسمح لأول مرة للسجناء بمواجهة الأهل والحصول على الفرصة من جديد لرؤية شمس غابت علينا آخر مرة قبل سبع سنين عجاف . إلا أن الإذن بالمواجهة كان يسير بإجراءات روتينية مملة ومضحكة أحيانا. كان رجال الأمن يروحون ويجيئون ويسألون عن عناوين سكنى كل واحد منا، ثم يقولون: لم نستطع العثور على العنوان الصحيح لربما تغير سكنهم، سوف نجري بحثا جديدا عن أهاليكم، وحالما نجدهم سوف يتم تبليغهم للحضور إلى المواجهة. تكرر هذا الادعاء منهم وكنا نقابله بمزحة: لكنكم حين اعتقلتمونا أخرجتمونا من تحت الأرض في خمس دقائق.
هنا تدخل قميصي التركي «مراد» الذي جاء معي من المعتقل وأرسلته مع عائلة أحد السجناء ليبشر أهلي بأني ما أزال حيا، وصل قميصي إلى متجر والدي الذي تمكن من التعرف عليه، وتأكد أني ما زلت على سطح هذا الكوكب أتنفس الهواء مثله، وإن كنت أقطن مكانا قصيا، واستبشر به بعد أن بلغ اليأس فيهم منهاه، حتى إن والدتي لم تلبس غير اللون الأسود طيلة سبع سنين حدادا علي، وعلى العادة البغدادية بالنذور، كانت تذهب والدتي ماشية حافية كل سبت إلى المشهد المقدس في الكاظمية، تسأل يوما تشرق الشمس فيه علي من جديد.
15
Unknown page