Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
من الأشياء الغريبة في السجن هو كثرة الشائعات والأخبار عن عفو رئاسي لإطلاق سراح وشيك. وكانت الإشاعات تروج بفكاهة؛ لأنها تبنى على معطيات وهمية هي للتهريج والمزح أقرب من أي شيء آخر. في إحدى الأمسيات، وقف أحدهم وسط الزنزانة وطلب منا الهدوء وبسمة عريضة على وجهه والبشرى ترتسم على محياه، وهو يقول: «عندي خبر مهم!»
أنصت له الجميع بخشوع واهتمام كما لو أنه كان يتلو قداسا: «صدر عفو سري جدا من مجلس قيادة الثورة على جميع السجناء السياسيين، وقريبا سوف تبدأ إجراءات إطلاق سراحنا، أرجو التكتم على الخبر؛ لأنه وصل عن طريق ثقة وأخشى من الأمن لو سمعوا بانتشار الخبر يتعرفون على المصدر.»
بادره على الفور شاب صغير لم يكن حينها قد أكمل خمس عشرة سنة من عمره بنبرة سخرية واستهزاء: «واضح جدا أن هذا العفو سري للغاية، والدليل أنت معنا في هذه الزنزانة المظلمة ووصلك الخبر.»
انفجر الحضور ضحكا، وتذكرت قصة «ملابس الإمبراطور الجديدة» والطفل الذي كشف عري الإمبراطور وزيف المنافقين. مثل هذه الأخبار كانت تشابه وتماثل الأحلام والرؤى التي كان يتحدث بها بعضهم. كان أحدهم مستودعا لا ينضب خزينه من أحلام ورؤى لا تنقطع عنه لصالحين وأولياء وأئمة وأنبياء ليس لهم من هم ولا شغل ولا عمل إلا المرور عليه لينقلوا له نبوءات تبشر بالفرج القريب، لم تتحقق ولا واحدة منها بالطبع لكنه لم ينقطع عن رؤيتهم ولا عن نقلها. آخرون كانوا يتحدثون عن نبوءات الأقدمين ويوافقونها مع واقعنا مبشرين بسقوط النظام وخروجنا منتصرين وأكثرها مبعثا للسخرية والازدراء لسخافتها كانت تقول إنه ورد في الأخبار الصحيحة عن السلف الصالح أن نهاية فلان (بتأويله صدام) تكون عندما يبلغ العراق نهائيات كأس العالم، وكانت النتيجة أن خرج العراق من هذه الكأس بثلاث هزائم متوالية وهزيمة رابعة حلت بصاحب النبوءة عندما لم نخرج من السجن نحن أيضا.
خلطة من عجز ويأس وجهل في جماعة لا تعايش واقعها، لا تريد الاعتراف به، ولا تحاول تغييره بنفسها لتلجأ إلى الخرافة والأساطير وتنعم برفاهيتها الزائفة وتخدع نفسها بسعادة وهمية.
تمر على جميع الأمم وأغلب المجتمعات ظروف طاحنة في ضراوتها، قاسية في وقائعها، مريرة في أحداثها، الجهلة والعاجزون فيها يركضون وراء الأحلام والخرافات والأساطير ليناموا تحت أفيائها، ليتفاقم قبح الواقع عليهم ويغرس مزيدا من حرابه في خواصرهم ونباله في صدورهم، ويجثو بثقل بشاعته، ويكلفهم سخفهم ثمنا باهظا وهم لا يفتئون يرددون وقائع أحلام لن تتحقق أبدا، ولن يقف على بابهم «غودو»، ولو ناموا الدهر كله في انتظاره.
14
الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بحتميتها كل البشر، وعلى الرغم من هذا إلا أن وقوعه يتحول دائما إلى حدث مزلزل ثقيل الوطأة على كل النفوس، وهذا ما جرى في ذاك اليوم المشهود.
شاب بغدادي في ريعان شبابه يحتضر من مرض عضال أصابه في السجن جراء نقص التغذية وانعدام الرعاية الصحية بالمطلق. جهد أفراد زنزانته - ومعهم شباب الخدمات - على الطلب من الضابط المسئول عن الأقسام المغلقة بتقديم بعض المساعدة له في محنته، واستنفدوا كل الحجج والسبل في سبيل إقناعه بأن هذا الشاب في وضع صحي مزر للغاية، وينبغي تقديم العلاج له وإسعافه، إلا أن رجال الأمن بالغوا في تجاهل الطلبات إذلالا وإهانة للسجناء. أصروا على عدم تقديم أي عون له، حتى لو كان يسيرا لجبر الخواطر وليس لإسعافه، فقد وصلت حالته إلى نقطة حرجة جدا، وأشك أن أحدا كان بوسعه إنقاذه، لم يقبلوا حتى أن يعاين طبيب السجن حاله، ولا أن ينقل لمستوصف السجن ليموت هناك. كان هذا خيارا سهلا وبإمكانهم أن يفعلوه بلا أي تكلفة؛ لأنه في الأول والآخر سيرقد هناك قبل دفنه.
مستوصف السجن هذا عبارة عن غرفة واحدة بسريرين، ويخلو من أي تجهيزات طبية إلا البدائي جدا منها؛ وهي ليست أكثر من حقيبة إسعافات أولية وبضع قناني مغذ، وبعض العقاقير الشائعة من أسبرين وبارسيتمول، ومضادات حيوية، ولم يكن صالحا لإجراء أي فحص متقدم أو إجراء أي عملية جراحية، وتقديم أي مساعدة طبية. نقلت إليه عند إصابتي بمغص كلوي حاد وفي ظرف كانت أوضاع السجن فيه جيدة، وقد تحسنت المعاملة كثيرا، ومع ذلك لم يستطيعوا تقديم أي مساعدة حقيقية لي سوى مسكنات ألم ليس غير.
Unknown page