Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
كان تبادل المخطوطات يجري بسرية بالغة حتى بعد التخلص من الخونة، وهناك تحفظ كبير في تداولها؛ لأن السجن معرض لحملة تفتيشية في أي لحظة. كان أفراد الخدمات الصالحون يقومون بهذه المهمة، وإن بحذر شديد، وفي مرات أخرى كثيرة كانت تنقل داخل حاجيات أخرى وقد دست في مكان سري، إلا أن نقلها من قسم إلى آخر كانت مهمة عسيرة جدا وتتطلب مهارة فائقة.
يصنع حبل وفي آخره ما يشبه صنارة صيد ويرمى بأقصى ما يمكن من فتحة البلوك الوحيدة المسماة شباكا تسامحا. ما يراد نقله يكون بالعادة بعضا من الحاجات المهمة التي تجمع لمدة طويلة من الزمن، وتنقل إلى قسم آخر لحاجة ماسة إليه، وطبعا لا تخلو البضاعة من أوراق ومواد ثقافية في أغلب المرات. كانت العملية تستغرق ساعات أحيانا؛ لأنها تتم تحت جنح الظلام، كان الطرف الآخر يرمي بصنارته أيضا لمرات ومرات عسى أن تلتقط الحبل الذي رماه صاحبه في الجهة المقابلة، وعندما تعلق الصنارتان، يبدأ سحب الحبل بحذر بعد أن يربط به كيس البضاعة المهربة؛ لأن عرض الساحة بين القسمين كان يزيد على العشرين مترا، والأنكى من هذا أنها كانت مكبا كبيرا للنفايات وكل شيء فيها يشكل عقبة أمام انسيابية النقل سحبا.
في مرات كثيرة كانت الصنارة تفلت؛ لأن البضاعة تعلق في كومة نفاية كبيرة يصعب تجاوزها، ويضطر الطرفان إلى سحب حبليهما ومعاودة رميهما من جديد حتى تعلق مرة أخرى ويبدأ سحب آخر. يظل الطرفان في توتر وترقب طوال الوقت خشية أن يدهمهم حرس أو رجل أمن يسير في دورية ليلية، وكانوا بالفعل يمرون كثيرا لتفقد السجن من الخارج مما كان يوقف عملية التهريب في فترات استراحات إجبارية. إلا أنهما يستمران في محاولة تهريب البضاعة ويظلان واقفين طوال الليل حتى تتم العملية قبل طلوع الفجر مكللة بالنجاح في كل المرات.
13
رغم تخلصنا من الخونة، وفتح قسم جديد قلل نسبيا الزحام وصار عددنا في كل زنزانة بحدود خمسة وثلاثين شخصا، إلا أن الظروف الصحية استمرت في حالها السيئ وتواصل انحدارها. معاملة رجال الأمن لم تتوقف عن إذلال واحتقار السجناء وإنزال عقوبات قاسية بهم لأسباب بالغة في التفاهة. وكلما كانت أيام السجن يتزايد عددها ، كلما كانت الأمور تسوء أكثر، ويحتد الغضب والحنق أكثر عند السجناء ويتضاعف وجدهم وتستفحل الضغينة ويتفاقم كربهم.
بين فترة وأخرى - ليست متباعدة - يموت سجين بسبب هذه الظروف المريعة، وكثير منهم يصاب بنوبات من إغماء، أو يضحون بهيئة وحال يشعر معها بقلق حقيقي، إنهم في سبيل التلاشي وهجر الدنيا كلية، وبالفعل فارقنا أكثر من واحد منهم وحصل ذلك أمام ناظري مباشرة وأنا أشهد ترجلهم من الدنيا وعروجهم إلى سماء طالما انتظرنا عدلها.
شابان شهدت فقد حياتيهما جراء المرض الشديد على مقربة جدا مني، وسمعت كيف تخمد الأنفاس في مشهد مرعب. يجاهد صبي في صراع مع مجهول لسحب أنفاسه وذاك الغريب من عالم الميتافيزيقيا يطبق عليها. يرفع ساقيه محاولا أن يرفسه بهما، وهو يشدد عليه الخناق حتى ازرقت قدماه وهوتا وأحلامه بالبقاء، لتخمد ضراوة المعركة مع انقطاع آخر أنفاسه الأخيرة، وتسدل ستارة من حزن ووجوم على زنزانة تحوي جسدا غضا يسحبه رجال الأمن في بطانية سوداء بعد ذلك إلى غرفة مجاورة.
كنا نتلصص من خلال ثقب الباب على جسده المطروح منبوذا مهجورا بلا احترام، فيما يحاول قط سمين الاقتراب منه يدور حوله ثم يتراجع ويقعد بعيدا عنه في زاوية، كأنه يقول: لا تخف يا عزيزي، أنا لست وحشا كأبناء جنسك، ولا أحمل غلا في قلبي لإخوتك الصغار وهم يلاحقونني في الأزقة الضيقة، ولو كنت تركض معهم حافيا تقذفني بالحجارة من السطوح فلن أرد عليك الإساءة، أنا لا أملك كل هذا الحقد لفعل شيء كهذا كما فعله بك من كنت تحسبهم بشرا وتحسبني حين كنت تراني وحشا.
الغضب يتزايد ككرة ثلج تواصل الانحدار، وغدا معه أغلب السجناء غير مبالين بالحياة، كثير منهم كان جسورا شجاعا ومستعدا للمواجهة بلا أدنى تردد وبلا حاجة لأن يغضب أصلا من سوء المعاملة، فكيف به معها؟ يحاول السجناء في كل مناسبة أن يتكتموا على آلامهم أمام رجال الأمن ويبدوا جلدا ومقاومة. وما زلت أحتفظ في ذاكرتي بصورة شاب تلقى صنوف العذاب مع آخرين، وحين انتهى التعذيب طلب منهم رجل أمن أن يهرولوا مسرعين إلى زنزانتهم. قام ورجع يمشي بكل هدوء ووقار، فعاجله رجل الأمن بضربات على ظهره لاستعجاله، لم يأبه لها وظل يمشي وكأن سياطهم ذباب يطنطن عند أذنيه لا يستحق منه الاهتمام سوى أن يهشه بيديه. وصل الزنزانة دون أن يغير من نسق خطواته ولم يرتبك في أي واحدة منها ولم يستعجلها ولا حتى بنصف خطوة.
كنا نمارس لعبة السعادة في رفع المعنويات، نشد أزر بعضنا بالتكاتف والتواصي، ونقول حالنا أفضل من حال غيرنا، حتى إننا في الزنزانة التي نقلت إليها بعد انتهاء فترة الحجر الصحي اخترعنا يوما كنا نسميه يوم الصبر. موعده السنوي في اليوم التالي ليوم وطني (عيد الجيش العراقي) تتردد قبله إشاعات كثيرة عن صدور عفو حكومي على السجناء ابتهاجا بذاك اليوم، وتتكرر فيه كل سنة الأخبار الكاذبة نفسها وكنا نعلم أنها إشاعات ليس إلا، ومع ذلك كان البعض يشتد به الشوق والحنين لزوجة تركها أو أطفال خلفهم كاليتامى، أو آخر يتوق للعودة إلى عالم بلا أسوار ولا قضبان، ويصيبه وهن وتراخ، ويحل به ضعف يزحزح قدميه ويرجرج موقفه. ضعف طبيعي، فما كنا سوى بشر يعترينا ما يعتري غيرنا من لحظات انتكاسة وقوة إلا أنا كنا نبغي مطاولة البغي وهزيمة السيف بالصبر. صار رأينا أن نقيم احتفالا عاما جماعيا في هذه المناسبة كل سنة في الموعد ذاته نترنم فيه بأناشيد حماسية، ونلقي قصائد وكلمات تشيع بيننا روح المقاومة والاستخفاف بممارسات الأمن وحربه النفسية، ونتجاوز لحظة الانكسار والضعف بالوثوب خطوة إلى الأمام في استجماع ولملمة كل قوانا.
Unknown page