Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
كان السجناء يتحينون الفرص للتصالح والتغاضي أحدهم عن الآخر من هذه الخصومات الهامشية، ويستغلون المناسبات والأعياد للتصالح؛ لأنهم كانوا يرون في أنفسهم أنهم أصحاب قضية أكبر بكثير من سفاسف الأمور. حتى أنا - وبرغم الطبع الهادئ الذي أوصف به من أغلب من يتعرف علي - دخلت في هذه النوع من الخصومات لأكثر من مرة. مثلا في إحدى المرات، كنت أنام عند جدار به ثقب صغير يمكن من خلاله الاتصال بزنزانة مجاورة، هذا الثقب أصبح محجا لكثير من السجناء يتوافدون عليه للحديث مع سجناء آخرين في زنزانات أخرى. كان أمرا مضجرا فعلا وكم كان مزعجا ألا أحظى بالراحة حتى في الشبر الواحد المخصص لي. نعم إنه شبر واحد تضطجع به، حتى إنه في يوم صرخ أحدهم: «يا إلهي! حتى في القبر يعطون شبرا وأربعة أصابع!»
نعم، إنه مضجع أضيق من القبر ومع ذلك لا أحظى به؛ لأنه قرب ثقب صار برجا للاتصالات، بحق كان أمرا لا يحتمل، وفي مرة صار وقت النوم وظل أحدهم يواصل ثرثرته، رجوته أن يترك المكان ويدعني أرتاح، لكن في كل مرة كنت أرجوه المغادرة يطلب بضع دقائق إضافية. كنت متعبا ضجرا، ونفسي متكدرة مما فاقم تعبي. وبعد أن صار يقينا عندي أنه لا يعيرني اهتماما نفد صبري الذي - بصراحة - لم يكن كبيرا ساعتئذ . صرخت به وتبادلنا الشجار بكلمات غضب واستغرق الأمر عدة أيام فقط من إشاحة الوجه فيما بيننا لنستعيد العلاقة الودية من جديد، وكأن شيئا لم يكن.
الاتصال من خلال ثقب الحائط كان أبسط الطرق وأكثرها بدائية في منظومة الاتصالات التي تعامل بها السجناء، ولربما اخترعوا بعضا منها؛ لأنها لم تكن سوى كلام مسموع ينتقل من فم إلى أذن. كل ما في الأمر أن تضع فمك مرة على الثقب وتارة أخرى أذنك عليه لتسمع رد صاحبك. الثقب لم يكن طبيعيا في أغلب الأحيان، بل كانت تصنعه يد سجين تجد مكانا رخوا في حائط فاصل بين زنزانتين، وحينها يبدأ حفر دقيق للإسمنت عند نقطة التقاء أكثر من بلوكة، لإحداث ممر صغير يمكن أن يمر منه خيط ضوء رفيع جدا. هذا المقدار الضئيل يكفي لمرور الصوت وتبادل الأخبار والنميمة أحيانا، إلا أنه لم يكن الطريقة الوحيدة للتواصل.
كان هناك أشخاص يبرعون في التعامل بلغة المورس المعروفة عند العسكريين، يتبادلون الحديث والأخبار بواسطة هذه اللغة وبسرعة فائقة، ومع أني كنت أحفظ شفرتها جيدا، إلا أني لم أكن سريعا بما فيه الكفاية في استعمالها. كنت أفضل طريقة أخرى في التواصل، وهي الكتابة في الهواء وهي طريقة شائعة بين السجناء ومن إبداعاتهم الخاصة لأني لم أر لها مثيلا في أي مكان آخر. تعتمد أصول هذه الطريقة على رسم الكلمة في الفضاء بطريقة تقطيع الحروف، وعلى الشخص المقابل جمع هذه الحروف التي تشكل أجزاء الكلمة وإدراك معناها ودلالتها. كنت أجيدها وأستخدمها كثيرا للتواصل مع سجناء في زنزانات أخرى. لم تكن وسائل التواصل هذه مخصصة لتبادل التحايا والسلام أو الثرثرة وحسب، بل كانت أيضا قناة للتزود الفكري والتعلم والتدريس، وإن كانت تسرق وقتا مديدا وجهدا ضخما، لكن لم يكن هذا عائقا مهما؛ لأنه لا شيء عندنا أكثر من الزمن الذي لم يكن ينقضي أبدا.
ولأجل التواصل الثقافي والفكري كان السجناء يلجئون إلى طريقة أخرى في تبادل الدروس عبر الزنزانات؛ فقد كانوا يتبادلون المخطوطات فيما بينهم. ولما كان القرطاس والدواة من المحظورات، كان من اللازم إيجاد بديل عنهما. في السنوات الأربعة الأخيرة من سني سجني بدأ الوضع الغذائي بالتحسن قليلا، وصار يصل إلينا بين حين وآخر كأس صغيرة من اللبن، يتقاسمه أربعة أو خمسة أشخاص، لكن غطاءه العلوي - وهو من ورق السيلفون - كان حصرا من نصيب المهتمين بالأمور الثقافية إن كانت فكرا أو أدبا. وبالاستعانة بعظام دقيقة من الدجاج الذي يستعمل كدواة تحول السلوفان إلى قرطاس يجري الخط عليه بطريقة الحفر الدقيق الناعم، كل ما يراد تسطيره في أي موضوع سياسيا كان أو دينيا أو ثقافيا بشكل عام من شعر وأدب وغيره صار يدون على هذا القرطاس. ولم يكن هذا النوع الوحيد من القرطاس؛ ففي كل شهر تقريبا كانت تصل إلينا في زنزانة الحجر الصحي علب حليب توزع على المرضى، وبالعادة تمنح أولا للحالات المتدهورة جدا على الأغلب. كان الحليب يجلب إلينا معلبا في كارتون مغلف من الداخل بسلوفان سميك؛ ولأن كل علبة كانت تحوي لترا من الحليب السائل، فكانت القطعة كبيرة جدا تكفي لتدوين مقالة طويلة، وباستخدام عظام الدجاج كانت الكتابة عليه أسهل وأسرع ولا يعاني من تشققات كما هو حال سلوفان اللبن.
استخدمت هذا الورق كثيرا في الإعداد لمحاضرات كنت ألقيها في مناسبات عديدة، أو لتدوين أفكار كنت أظفر بها، خصوصا عندما يهجع الكل إلى النوم. كنت أحرص على استغلال فرصة الهدوء وأسرح بعيدا في تأملات عميقة أوصلني بعضها إلى اكتشافات فكرية جوهرية، أسست عندي لمبان فكرية جديدة طورت من فهمي لأشياء كثيرة، وربما أيضا سببت لي مشاكل ليست قليلة في حينها، لنقص في خبرتي ولبعض الحماس غير المبرر مني للجهر بآراء صريحة مقابل بعض محدودي الفهم والمتعصبين، وأشخاص منزعجين جدا من تسيد المشهد الثقافي من قبل مجموعة معينة كنت أحد أفرادها.
هذا الوضع المميز جعلنا في مركز اجتماعي حسن، بعض قليل من السجناء كان لا يروق له ذلك، واشتعلت الغيرة في صدره، واضطرم الحسد في نفسه المضطربة أصلا، فبدأ يختلق الأعذار وينتحل الحجج للتوهين من آخرين. الغريب أنه حتى في هذه الأوضاع المزرية حيث الحرمان من كل شيء، كان التنافس على المواقع والحسد متوفرا بصورة ملحوظة مع أنه لا يوجد شيء يستحق الاهتمام فضلا عن القتال عليه.
في إحدى المرات كنت أجلس متكئا على حائط، بينما تجتمع في إحدى زوايا الزنزانة مجموعة من الأشخاص لحل خلاف نشب بينهم، ولسبب ما أجهله الآن حجب بصري شيء ما عن رؤيتهم، لم أقدر على ملاحظة المشهد إلا من خلال النصف السفلي لأجسادهم، سقط نظري على أقدامهم وهم وقوف يهمون بالجلوس ورأيت أرجلهم حافية مجردة من أي نعل؛ مشهد غريب أحدث أثرا عميقا في. إنهم لا يملكون حتى نعالا ولو خلعوا أسمالهم البالية لكشفت عوراتهم في الحال؛ لأنهم لا يملكون سروالا داخليا ليرتدوه. هل هناك من شيء فعلا يستحق كل هذا التنافس والخصومات؟! وهل يوجد شيء ليس هنا في هذا المكان المقفر من كل ما يمت للدنيا وحسب، بل في كل هذه الدنيا يستوجب التنازع لأجله إلى حد تصل الأمور فيه إلى سفك الدماء وقتل الأبرياء؟!
ما أغرب نفس المرء حين توهمه بمغريات زائفة وهي في حقيقتها أوهام وعدم، أو كادت أن تكون كذلك في أكثر المرات. النوازع البشرية لا تتغير بتغير الظروف سواء كانت خشنة أو ناعمة، قاسية أو رقيقة. غرائز تبقى كما هي في كل الأحوال وكل ما تفعله تبدلات الظروف في منعطفاتها حين تدهم المرء على حين غرة، إنها تعطي دروسا مجانية لمن يريد أن يهتدي بنورها.
في هذه المنعطفات الحادة تتعرى الأشياء من تراكمات الزيف وتتبدى ماهية الحياة مجردة من أي زخرف وزينة، وتسقط الهالة الساحرة الغامضة التي طالما خدعت الأبصار وشوشت الأفكار وهي تتلوى مائجة. من أخذ الدرس يركلها هي وكل الأوهام التي تذهب بلب كل تواق نهم يشتهي متعا زائلة بلا تدبر ولا حسبان لعواقب وبيلة، ويقي نفسه عواقب تنزل به الضرر عاجلا أو آجلا.
Unknown page