Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
12
تطور الأمر إلى أكثر من التثقيف الجماعي أو الفردي إلى درجة أن البعض اندفع إلى محاولة بناء تنظيم سري داخل السجن. كانت عملية يشوبها حماس زائد وتفتقر إلى الحكمة رغم سلامة النوايا. خطوة قام بها متحمسون وانضم إليهم شباب حديثو السن ولم يحسبوا جميعا أضرارها ونتائجها بخلاف خطورتها الأمنية الشديدة وعدم جدواها المطلق في تحقيق أي فائدة في زعزعة النظام كما هو هدف العمل التنظيمي لإحلال بديل عنه؛ لأنها كانت تتحرك بمزاج أشخاص صنعوا هذا التنظيم الخاص ولا علاقة لهم بأي تنظيم سياسي حقيقي خارج القضبان، مما يعني بكل بساطة أنه مزاج أشخاص ورغبات ذاتية في بناء جسم تنظيمي يتولون هم شخصيا قيادته، وهذه آفة التنظيمات السياسية.
التنظيم السياسي حركة جماعية لتحقيق أهداف يسعى إلى بلوغها الفكر الذي تلتف حوله الجماعة، وليس هناك من تابع ومتبوع في الحركة إلا بمقدار تنظيم الحركة فيه. القطب الذي ينبغي أن يدور حوله الكل هو الفكر والهدف، لا الأشخاص مهما كانوا، وعندما يصبح بعض الأشخاص في التنظيم بمنزلة القيم على الفكر وتحديد غاياته ويصبحون هم من يحدد المسارات برؤيتهم الخاصة، حينها يفقد التنظيم السياسي جدواه ويتحول إلى ما يشبه دينا وثنيا يتحكم به كاهن يسكن معبدا، وما على أتباعه سوى تقديم القرابين والنذور على مذبحه. النخبة التي تسيطر على التنظيم وتسعى إلى التفرد تجهض التحرك الثوري بدلا من قيادته فيما لو تعارضت مصالحها مع مصالح الحركة الثورية. ولن يستطيع تنظيم تأسس على هذه الطريقة والمنهج أن يكون ذا جدوى ونفع أبدا.
بدأت هذه الخطوة الانفعالية المزاجية تقسم المجتمع المتماسك في جميع الزنزانات؛ إذ إنه في زنزانة محشوة بعدد كبير من السجناء لم يكن من العسير اكتشاف وجود علاقة خاصة بين مجموعة معينة منهم، وهم يتكتمون في أحاديثهم على أمر خفي، خصوصا أن كثيرا من السجناء كان مدربا على العمل السري ويلتقط بسهولة هذا النوع من العلاقات.
الثورية الزائدة مرض يتوفر دائما عند قليلي الحكمة. المتهورون والمتزمتون والمندفعون هم مشاريع تطرف سياسي ومرض طفيلي في أي فكر تغييري، والأفعال التي تصدر منهم غالبا تتسم بانفعالية كينونتها رد الفعل؛ سلوكهم يتسم بالانغلاق، وكل هذا جعل انكشاف أمرهم أكثر سهولة ويسرا في مجتمع السجن الخاص.
هذا الشرخ الاجتماعي متزامنا مع الرفض من قبل أغلب السجناء، خصوصا ممن كانت له ريادة اجتماعية، جعل هذا المشروع التنظيمي في وضع لا يحسد عليه، وأصبح عرضة لانتقاد شديد خلف عددا من المتاعب والمشاكل لأصحابه، وخلق جوا من التوتر العام في أكثر من مكان.
عدم الاستجابة لرأي الأكثرية والإصرار على أمر خاص لا يختلف كثيرا عن الجهود التثقيفية التي كانت تتم في الجو العام أجهض المشروع نهائيا، إلا أنه لحسن الحظ تم احتواء هذا التحرك في النهاية بشكل تام. لكن لم يكن ذلك بلا خسائر، بل أخذ وقتا ليس بالقليل وجهدا غير متواضع من الحوارات المطولة، وبنفس المقدار أحدث انقسامات وشجارات تطور بعضها للأسف إلى اعتداءات لفظية وجسدية.
لكن هذه الشجارات كانت ستحصل أيضا حتى بدون هذه الخطوة السقيمة؛ إذ إن هناك كثيرا مما يمكن له أن يسبب شجارا وخصومة بين السجناء، فأجواء الحرمان القاسية والضغط النفسي كانت تنتظر شرارة لتندلع فيها حرائق صغيرة سرعان ما تخمد؛ لأنها لم تكن سوى محاولة للتنفيس عن توتر وغضب يعتمل داخل النفوس. وكانت دوافعها في جميع المرات أسبابا تافهة جدا لكن يمكن تفهمها.
مثلا: أي شخص بعد تناوله الفطور كان مضطرا لقضاء حاجته أن يجلس أمام المرحاض في طابور طويل مكون من أربعين شخصا أو يزيد. لنتخيل كيف ستكون أعصابه حين يحاول جاهدا ألا يصدر منه ما يعيبه بعد أكثر من ساعة من انتظار ممل، ثم يأتي أحدهم ويحاول بحذلقة ماكرة أن يتخلص من طول الانتظار مدعيا أن لديه مغصا شديدا أو حاجة مستعجلة. سيحدث رد فعل غاضب خصوصا إن كان متأكدا أن هذا التفاف ماكر، وسوف ينفجر غضبا ويحدث شجار بينهم بالتأكيد.
يمكن لأي أحد أن يعيش في هذه الظروف أن تفسد طباعه وينقلب وحشا كاسرا، وهذا ما يحصل في السجون الجنائية حيث تتحول الخصومات الصغيرة إلى معارك دائمية، لكن في هذا السجن كان كل شيء ينتهي سريعا ويتم التصالح بين السجناء، مما جعل السجن رغم كل ما فيه قابلا للاحتمال.
Unknown page