Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
59

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

في أحد الأيام اندلع شجار صغير بين سجينين وحاول أن يزج نفسه فيه قليلا بصورة ودية لفض النزاع، إلا أنه وجد أن المتشاجرين أنهوا خصامهم بسرعة قياسية والتفتوا إليه، وضربه أحدهم بكلتا قبضتي يديه على ظهره. من ضربه كان شابا ريفيا طويلا قويا جدا لو دفع أحدا مزاحا لأوجعه فكيف به وقد ضربه في أوج غضبه وبمنتهى قوته. ضربة لفرط قوتها وشدتها أجبرته على إفراغ ما في معدته بالحال، ومن حينها سكت هذا المنافق (كما كان يطلق على الوشاة) للأبد، ولم يحشر نفسه في أي أمر بعدها حتى خروجه من السجن.

لم تكن قصة هذا الساعي بالوشاية فريدة من نوعها، ونسبة الخونة لم تكن قليلة، وكان هناك عدد آخر مرشح للانضمام إليهم تحت قسوة الظروف الحياتية التي يعيشها السجناء. بالمقابل كان هناك سعي حثيث من نسبة ليست بالقليلة هي الأخرى للقضاء على هذه الجماعة الضعيفة الخائنة. وكان يجري التخطيط بهدوء وترقب لفرصة مواتية للإطاحة بتسيدهم على مناصب المراقبين والخدمات، وهما المنفذ الوحيد للتعامل المباشر مع رجال الأمن.

في فترة لاحقة ومع تراجع الوضع المتأزم على جبهات الحرب الذي كان يهدد وجود النظام نفسه قبل سنوات، وبعد أن استعاد النظام توازنه من ضربات عسكرية كبيرة أفقدته كل انتصاراته، بل ألحقت به هزائم نكراء، عاد من جديد ليوقف زحفا عسكريا معاديا، وبعد أن اطمأن إلى بقائه في سدة الحكم واستقرار الوضع العسكري، شهد السجن انفراجة أمنية نسبية. إذ خفت حالات الانتقام والتعذيب العشوائي - وإن لم تتوقف بالكامل - وساهم في ذلك بشكل واضح تزامن الوضع مع نقل الضابط المتهم بإعدام معارضين سياسيين مقابل الإفراج عن قتلة محكومين بالإعدام، القصة التي تقدمت روايتها.

هذا التخفيف الأمني النسبي كان فرصة مثالية للوثوب على الخونة، بدأ من تسلل شاب شجاع سريع البديهة إلى صفوف الخدمات، وصار يحتال عليهم بتقديم بلاغات إلى الأمن تكشف بعضا من أفعالهم التي يستقبحها رجال الأمن. وصار تدريجيا يتم التخلص منهم الواحد تلو الآخر ويستبدل بعنصر جيد. كانت عملية معقدة محفوفة جدا بالمخاطر، تنطوي على قدرة كبيرة ليس من الشجاعة وحسب، بل على سرعة البديهة والقدرة الكبيرة على التظاهر وادعاء الولاء للأمن، بينما كان في الواقع يخفي عكس ذلك تماما.

لم تنته المشكلة بإزاحة الخونة المنافقين من الخدمات وحسب، بل معاقبتهم في الزنزانات التي كانوا يدخلون إليها ومقاطعتهم بالطريقة نفسها التي قوطع بها ذاك الخائن في المحجر. تحول السجن بعدها إلى جحيم حقيقي على هؤلاء الخونة؛ إذ لم يسلموا حتى من الضرب على أيدي السجناء، وفقدوا كل حظوة عندهم لدى رجال الأمن، بل أصبحوا أعداء لهم وعاقبوهم بشكل مبالغ به أحيانا من الإذلال والإهانة. وهكذا حد من خطرهم إلى حد كبير، وإن لم يسلم السجناء من شرور بعضهم متسببين فيما بعد بمقتل عدد مهم من السجناء في أحداث مؤسفة. كما سوف يحل عهد من إذلال كبير وخزي عظيم عاشه الخونة في أحداث غير عادية شهدها السجن جسدت قوة السجناء السياسيين وقدرتهم على مناطحة النظام الفاشي حتى وهم في الأغلال وخلف القضبان.

9

فيما كانت تتحسن صحتي كانت صحة آخرين تسوء بسبب انتشار مرض السل الذي أصبح وباء كارثيا يهدد الجميع. أصاب المرض ثلث عدد السجناء تقريبا وانتشرت أمراض غريبة وحالات مرضية متنوعة كلها بسبب نقص التغذية والرطوبة والظلام وغياب الظروف الصحية. وفي أحد الأيام توقفت المجاري عن سحب المياه والقاذورات من المرحاض، وعندما أقول في أحد الأيام ليس حصرا به؛ لأن مثل هذا اليوم تكرر وقوعه لمرات عديدة. حاول السجناء بأساليب متعددة فتح المجرى الوحيد لها في المرحاض، أدخلوا أيديهم وكل آلة عندهم لإخراج ما علق فيه وسبب هذا الانسداد لكن بلا جدوى، بدأت تطفح المياه الآسنة إلى أرضية الزنزانة ورجال الأمن لا يلقون بالا إلى طلبات السجناء ولا يعيرونها اهتماما. ولأن أرض الزنزانة كانت مائلة قليلا نحو المرافق بطريقة هندسية لتصريف المياه فإن وصول المياه الآجنة لمقدمة الزنزانة حيث الباب والقضبان كان يتأخر قليلا عن الوصول لها بخلاف غيرها من زوايا الزنزانة؛ لذا تجمع السجناء في مقدمة الزنزانة، لكن الماء الآسن يواصل زحفه ويدفع بعضا من السجناء إلى تسلق القضبان والتعلق بها هربا من هذا الماء الآسن ومما يحمله من بقايا فضلات بشرية. أدرك آخرون أن لا مناص من هذه الفوضى واستسلموا لواقعهم، وصاروا يأكلون ويشربون وقوفا، بل حتى يناموا هكذا وأرجلهم تخوط مياها قاءتها المجاري بكل ما فيها.

في الليل والنهار يجمع السجناء المياه الثقيلة بآنية الطعام المتوفرة عندهم ويرمون بحمولتها من خلال الفتحات التي تسمى شباكا إلى ساحة الفناء الخارجي للتخفيف من منظر عدد الأشياء العالقة في الماء، ولتخفيف مستواه الذي يشهد مدا متزايدا. بهذا يفهم لماذا كنت أنعت الساحة بين الأقسام بأنها مكب هائل للنفايات ومصدر أساسي لكل الحشرات. يبقى الحال هكذا لنهارين متعاقبين بلياليها وأحيانا أكثر من ذلك، والسجناء إبان ذلك يأكلون في الآنية عينها التي يستعملونها للتخلص من الفضلات. وهذه لن تكون المرة الوحيدة التي نقسر فيها على الأكل في آنية ملوثة أو تناول طعام ملوث.

فضاء الزنزانة كان ضيقا ومزدحما للغاية بالسجناء وحاجياتهم. وأي شيء يراد خزنه أو استعماله لاحقا يوضع في آخر الزنزانة قريبا من المرحاض، مثل فردة النعال المستهلك الذي يستعمل بتجفيف الماء ، وكذلك حساء الصباح (الشوربة) الذي يحفظ أحيانا قسم منه لآخر النهار في جردل صغير؛ لأن بعض السجناء كان يمتنع نهارا عن الأكل والشرب لأسباب دينية خاصة بهم.

فردة النعال المستخدم للتجفيف - تكرارا في اليوم الواحد - لم تكن تربط بذاك الإحكام؛ ولذا كان يتكرر سقوط النعل وأحيانا يكون سقوطه في جردل الحساء. وحين يكتشف الحادث يستخرج النعال وينظف من الطعام العالق به فيما يتجمع الصائمون بعدها لتناول إفطارهم من الحساء ذاته؛ لأنهم لا يملكون شيئا غيره يأكلونه. كنت أمزح مع أحدهم يوما عندما تحدث عن الجراثيم التي تتكاثر في هذه البيئة القذرة، فقلت له: اطمئن يا عزيزي، هنا لا توجد ميكروبات ولا جراثيم ولن يأتي المزيد منها؛ لأنها باتت تخشى على صحتها.

Unknown page