Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
هزني بعنف عدة مرات ثم كلمني برفق، كان يناديني باسمي طالبا مني أن أكلمه بأي شيء، وأقسم لي مغلظا أنه لن يؤذيني أحد بعد الآن، فقط إن رددت عليه. إلا أني كنت موقنا على الدوام أن للمسرح دورا كبيرا وخطيرا، ولا ينبغي التنازل عن هذا العرض الكبير الذي أقوم به لأجل شخص تافه من النظارة لا يفهم ما يدور حوله. ذهبت كل محاولات استدراجي عبثا، وانتهى الأمر به إلى يأس تام من استجابتي، وأن ما يراه ليس تمثيلا، بل واقع وحقيقة ليصدر فرمانه قاطعا النزاع: «نزلوه! هذا قد انتهى.»
لم أعن جسدي على النزول من الحلقة المعقوفة المفتوحة المثبتة بسقف الغرفة رغم محاولاتهم إقناعي بذلك، أحدهم كان يطلب ذلك مني بما يشبه لهجة المتوسل. رفضي التعاون اضطرهم إلى التعاون الجماعي على رفعي إلى الأعلى وتخليص القيد الجامع من الحلقة المعقوفة في السقف. كنت أواصل الحديث مع نفسي: علي أن أستمر في أداء الدور إلى النهاية. «أنت ممثل بامتياز.» سرى في داخلي شعور نرجسي بالتباهي والإعجاب وكذلك بالفخر. بدأت ألوم نفسي كثيرا، وأسلب منها شعور الانتصار، وأقول لها لماذا لم تفعلي ذلك مبكرا؟
حتى إنه وردت حينها في بالي خاطرة؛ عندما كنت أذهب إلى المسرح، وكنت أذهب إلى هناك مرارا لم أكن أختار الجلوس إلا في مقاعد الحضور، مع أنه ثبت الآن أنه كان بالإمكان جدا أن أصعد على المنصة وأحدق في النظارة ببرود وأؤدي أفضل الأدوار. إيه قد فاتتني هذه الفرصة أيضا، واكتشافي لمواهبي جاء متأخرا. قلت لنفسي: لا تهتم كثيرا، لم يفتك الشيء الكثير؛ فالعالم كله مسرح كما يقول شكسبير.
أهبطت على الأرض ثانية بعد التحليق الطويل. أمسك بي من كل ذراع واحد من الجلادين، ويبدو أنهم قرروا إجراء اختبار سريع لكشف الكذب لم يكن في حساباتي أبدا؛ لذا لم أكن مستعدا للتملص منه بأي حيلة أو وسيلة. فجأة تركوا ذراعي وحرروني من قبضاتهم القوية التي كنت أتكئ عليها. بغت بتصرفهم الذي لم يرد على خاطري، ولكن ما صعقني أكثر من هذه المفاجأة، أني هويت إلى الأرض مثل حجر يسقط من علو، ولم أستطع النهوض ولا حتى الجلوس. «ما هذا؟ هل فعلا قدماي عاجزتان أن تحملا جسدي النحيل؟!»
تكومت بلا انتظام على البلاط البارد عاريا، أمسحه بعرقي، وألامسه بالحروق وآثار أعقاب السكائر والكدمات والجروح الموزعة بعشوائية في كل مكان من جسدي المتعب المنهك.
أية أكذوبة تلك التي كنت أحدث بها نفسي، وأي هراء هذا الذي كنت سأصدقه حينما ظننت أني نجم مسرحي، ذاك الأداء التمثيلي الرائع لم يكن إلا وهما جديدا وخيالا سخيفا، وسوف يتبين بعد قليل أن كذبتي على نفسي كانت كبيرة جدا وأكبر مما يتصوره أي أحد، علي أن أضع كل هذا الهراء الفارغ في خانة مقفلة وأنتزعه من تفكيري. استبد بي الضحك سخرية، بل عصبية، وعلت قهقهة في أرجائي وأنا أتأمل حالي وما صرت إليه. انفضت كل الأفكار عني كأن مغناطيسا هائلا سحبها، وأصبحت أجوف فارغا تماما مثل قطعة من فضاء خارجي لا يسكنه إلا أثير لا حقيقة له ولا واقع.
رفعوني مثل كومة لحم من الأرض وجرجروني في ممر قصير يقع إلى جوار غرفة التعذيب «غرفة العمليات بحسب اصطلاحهم.» بدا لي حينها أنه ممر طويل لا نهاية له، يسيرون بي فيه بسرعة لم تكن تناسب كومة اللحم المتهالكة التي صرت إليها. قفزت حينها في بالي خاطرة سخيفة فعلا، لكنها لا تناقض ميلي الدائم للمزاح حتى في أعسر المواقف وأكثرها جدية.
كم هو مضحك منظري الآن وأنا أمشي عاريا! ترى كيف سيكون رد فعل زملائي في الجامعة وبالأخص الطالبات منهم لو رأينني هكذا؟ هل هذا وقته؟! لماذا لا تتوقف عن المزاح؟ ماذا بك؟ هل جننت؟
كنت أحدث نفسي بهكذا حوارات فوضوية لا رابط بينها ولا نظام في لحظات خاطفة أسرع من الضوء. لكن بصراحة كنت أضحك في داخلي لهذا الحوار، وبدا لي أنه شيء قريب لحد الملامسة من همس الجنون أو اكتشاف متأخر لعبثية الحياة التي لم أعد أحفل بقيمتها في تلك اللحظة بالكامل. حتى إن الابتسامة غلبتني وأنا أحدث نفسي. ولحسن الحظ لم ينتبهوا إليها، وحتى لو انتبهوا لها لم يكن بإمكانهم تمييزها؛ لأن وجهي بل كياني كله بالتأكيد كان مريعا لا يساعد أحدا على تصور وجود ابتسامة فوقه، وكيف لها أن تعلو هذا الخراب العارم. الأمر الأكيد أني أصبحت فوضى شاملة تتوارد علي الأفكار وتتضارب في المشاعر وتمر فوقي الخواطر كأنها أمواج بحر هائج. سارعت لإيقاف خواطري أو لجمها قليلا؛ لأني كنت سأنفجر ضاحكا، وكان يمكن أن أضحك بهستيرية لو فلتت ضحكة واحدة مني. أقولها مرة ثانية أصبحت فوضى عارمة شاملة في المظهر والجوهر.
في هذه الأثناء واصل اثنان من رجال الأمن السير بي رواحا ومجيئا في الممر البارد، يرفعانني بين الحين والآخر عن الأرض حين أعجز عن مجاراتهم في المشي. كنت في تلك اللحظة قد قطعت علاقتي بكل محتويات العالم ولا أفكر إلا بهذه النزهة الإجبارية التي لم أفهم سرها ولا المغزى منها. بدوت بينهم وهم يسيرون مسرعين مثل طفل صغير يلهو مرحا برفع قدميه من على الأرض حين يمسك والداه ذراعيه.
Unknown page