كنت أظن ذلك، وكنت أظن أن وزارة الشئون الاجتماعية ستستقبل حياتها على طريقة ديكارت، قد جردت نفسها من كل علم سابق، ومن كل رأي سابق، وأخذت تدرس شئون مصر في أناة ومهل، كأنها لا تعلم من هذه الشئون شيئا، وهيأت لهذا الدرس وسائله قبل البدء فيه، فأنشأت إدارة الإحصاء وإدارات مختلفة لمراقبة شئوننا الاجتماعية وملاحظتها. وكنت أظن أنها ستنفق عاما أو نحو العام في إعداد هذه المصالح والإدارات، وإمدادها بوسائل البحث العلمي الدقيق، وأدوات الملاحظة الصحيحة المنتجة، ثم تأخذ بعد ذلك في الدرس على مهل وفي روية وتثبت. وكنت أظن أنها ستحتاج إلى عامين، أو إلى أعوام، قبل أن تظهر لإنشائها نتائجه اليسيرة الأولى، ولكنا في مصر نحب العجلة ونكره الأناة ، وليس لنا صبر على الروية والبحث، ولا طاقة لنا بالحياة يوما أو أياما دون أن يقول الناس عنا شيئا، ودون أن ترى أسماءنا في الصحف والمجلات مقرونة إلى أعمال تضاف إلينا خطأ أو صوابا، وتحمل علينا صدقا أو كذبا، وليس المهم أن نعمل، وإنما المهم أن يظن بنا العمل، وليس المهم أن ننتج أو نصلح، وإنما المهم أن نتهم بالإنتاج والإصلاح. وأنا أستعمل كلمة الاتهام عن عمد.
ومهما يكن من شيء فقد أنشئت وزارة الشئون الاجتماعية، فكنت أسعد الناس بإنشائها، ثم أخذت وزارة الشئون الاجتماعية في النشاط، فلا أقول إلا أنها رسمت في نفسي وعلى وجهي ابتسامة فيها مرارة شديدة. ومهما ننكر على وزارة الشئون الاجتماعية فنحن مضطرون إلى الاعتراف بأنها قد أعطتنا مادة للكلام، وقد أعطتنا مادة للدعاية أيضا. ونحن في مصر نحب الكلام، ونحن في مصر نكلف بالدعاية كلفا شديدا. فلنشكر وزارة الشئون الاجتماعية فضلها علينا، ولعلها أن تتقاضانا غدا أو بعد غد شكرا آخر أقوم وأجدى من هذا الشكر.
وكان من أول ما أنشأت وزارة الشئون الاجتماعية إدارة الدعاية، وكانت الدعاية نفسها أول ما أقبلت عليه، وكان صديقنا توفيق الحكيم هو قائد هذه الحملة الهائلة التي وجهت في عنف شديد إلى نظمنا الاجتماعية الفاسدة لتدكها دكا، ولتقيم لنا مكانها نظما اجتماعية صالحة لسنا نعرف ما هي. ولم يرد القائد أن يكون أقل بلاء من جنده، ولا أن يكتفي بتدبير الخطط، وتوزيع الجيوش على مناطق الخطر. وإنما كان قائدا باسلا مغامرا، كقادة القصص القديم؛ يسبق جنده إلى الميدان، ويعرض نفسه للخطر ليكون أسوة حسنة، وقدوة صالحة لأتباعه المستبسلين.
وقد افتتح الحرب بحملة عنيفة على خصمه القديم وصديقه القديم أيضا؛ ذلك الخصم الذي ينغص يومه، ويؤرق ليله، ذلك الصديق الذي تنقطع نفسه حسرات في سبيله، والذي ألهمه ما أنتج من أدبه الجميل، ذلك الخصم وذلك الصديق الذي يسمى المرأة. وكانت غارة القائد المستبسل عنيفة ظريفة، وكانت مضحكة، وكانت مخيبة للآمال؛ فلم يقل فيها صديقنا الأديب شيئا لم يكن قد قيل من قبل، ولكنه أعاد حديثا زهد فيه الناس، وأعاده في لهجة محنقة من جهة، ومؤذية للذوق من جهة أخرى؛ محنقة لأنها لا تلائم الحق، ومؤذية للذوق - وأريد الذوق الأدبي - لأنها نزلت بالأستاذ إلى أن يتحدث عن أشياء لم نألف الحديث عنها في أدبه الرفيع عن البطاطس والفرن وما يتصل بالبطاطس والفرن. وقد قرأت وضحكت وغضبت، ثم انتهى بي الغضب والضحك إلى هذه الابتسامة المرة التي ترسمها على وجهي وزارة الشئون الاجتماعية دائما كلما ذكرت. وقلت في نفسي: هذا فن جديد من فنون الإعلان، فلن يمضي حديث مدير الدعاية دون أن يثير السخط، ويدعو السيدات والآنسات إلى الرد والجدال، فيكثر القول، وتذكر وزارة الشئون الاجتماعية فيه، وتتحقق الدعاية العنيفة يسيرة سهلة، لم تكلف عناء، ولم تحتج إلى نفقة. ولم أخطئ في التقدير؛ فقد هاج السيدات والآنسات، وما أسرع ما يهجن! وكان من حقهن أن يهجن في هذه المرة، وقد أخذن على غرة، ولم يقدرن كما قدرت أن الأمر لا يراد به إيذاؤهن، ولا الغض من قدرهن الرفيع في نفوسنا جميعا، وفي نفس الأستاذ توفيق الحكيم خاصة، وإنما هو لون من ألوان الدعاية وفن من فنون الإعلان.
هاج السيدات والآنسات، فاتصلت ردودهن في الصحف العربية والفرنسية، وثارت بينهن المناقشات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن الشكوى لم تلبث أن ارتفعت إلى الوزير، والسؤال لم يلبث أن وجه إلى الوزير في مجلس الشيوخ؛ وإذا الوزير ينفي، وإذا الكاتب يبرأ، وإذا الأمور تستقر والحمد لله، بعد عاصفة لم تكن هوجاء ولم تكن فاترة، ولكنها كانت شيئا بين ذلك، وكانت تثير في نفوس أصحاب الجد والحزم غضبا وضحكا في وقت واحد، ولا مصدر لهذا كله إلا الإعلان. فمتى يريحنا الله من الإعلان؟ ومتى تقتصد وزارة الشئون الاجتماعية في الإعلان؟ ومتى يكلف الأستاذ توفيق الحكيم شيئا غير إدارة الإعلان؟
وكذلك كنت أجيل في نفسي هذه الأحاديث وأعبث بها مع بعض الأصدقاء، وإذا «الثقافة» تحمل إلي ذات يوم فصلا لصديقنا أحمد أمين، يصور هذه الآراء التي ذكرتها آنفا تصويرا دقيقا. فصديقنا أحمد أمين جاد في هذا الفصل، عابث فيه أيضا؛ جاد لأنه يريد الإصلاح ويبتغي إليه الوسائل، وعابث لأنه يساير وزارة الشئون الاجتماعية في هذه الطريق الغريبة التي سلكتها، طريق التفكير السريع، والاقتراح السريع، والإعلان السريع، والإقدام السهل والعسير، في غير تحفظ ولا احتياط.
يريد صديقنا أحمد أمين مجاراة لوزارة الشئون الاجتماعية أن تنشأ في مصر مدرسة للزوجات، ولم لا ولكل شيء في مصر مدرسة؟ والزوجات شيء، فيجب أن تكون لهن مدرسة. ولم لا والدولة تنشئ المدارس في فروع العلم والعمل لتخريج من تحتاج إليهم في مرافق الحياة وحياة الأسرة أهم مرافق الحياة، فما بالنا لا ننشئ مدرسة تخرج اللاتي يقمن على هذه المرافق الخطيرة التي هي أساس الخير والشر في كل ما يمس حياتنا الخاصة والعامة؟ وقد احتاط الأستاذ أحمد أمين في لباقة وظرف وعبث أيضا، لي ولأمثالي من المناكفين الذين يثيرون الاعتراضات ويخلقون المشكلات؛ فرد على الاعتراضات قبل أن تثار، وحل المشكلات قبل أن تخلق، وظن أن فصله هذا سيمضي دون أن أتعقبه، كما تعقبت فصله البديع في فن السرور.
ولكن صديقنا لم يقدر أني مصمم على تعقبه دائما في هذا اللون من ألوان الحديث الذي يمس شئوننا الاجتماعية ويلتمس لها العلاج السهل اليسير القريب، الذي يكفي أن نفكر فيه ساعة، ونكتب فيه فصلا، لنظن أننا قد وصلنا به إلى الغاية، وانتهينا به إلى أبعد آماد الإصلاح.
فمدرسة الزوجات هذه فكرة ظريفة، ذكرتني لمجرد قراءتها بآثار أدبية رائعة لموليير وجيد وموروا، وغيرهم من الكتاب والشعراء. ولعلها شوقتني إلى أن أعود إلى قراءة هذه الآثار الأدبية التماسا للمتعة الفنية، والتماسا لبعض ما أتحدث به إليكم أيها القراء الأعزاء. ثم هي ذكرتني في الوقت نفسه بكتاب آخر خطير، ألفه المسيو ليون بلوم رئيس الوزراء السابق في فرنسا، وزعيم الاشتراكية الفرنسية منذ حين، ألفه في أول هذا القرن وأعاد نشره حين كان رئيسا للوزارة الفرنسية منذ عامين. وهو كتاب الزواج، وهو كتاب ضخم طويل ممتع، ولكن الحديث عنه لا يلائم هذا الطور من أطوار حياتنا الاجتماعية، ولا يوافق عرفنا وأخلاقنا. وحسبك أنه أثار وما زال يثير في فرنسا سخطا عنيفا. وهذا الكتاب يمكن تقسيمه إلى قسمين: أحدهما تعريف الزواج وتصويره وتصوير الأغراض التي ينبغي أن تلتمس منه وتطلب إليه، والثاني تصوير الوسائل التي تمكن من تحقيق الزواج على النحو الذي يلائم ما أراد المسيو ليون بلوم من الأغراض.
والقسم الأول يمكن أن يختصر في أسطر، وهو يطابق كل المطابقة رأي صديقنا أحمد أمين؛ فليس الزواج عند مسيو ليون بلوم متعة عنيفة ولذة متهالكة، وليس الزواج وسيلة إلى إرضاء طائفة من الشهوات الجامحة التي تضبط ولا تنظم، وإنما الزواج نظام هادئ، ينظم حياة هادئة، ويؤدي إلى سعادة هادئة، ويعين على احتمال أعباء الحياة في طور من أطوار السن، يصعب فيه احتمال أعباء الحياة. وإذن فلا بد من أن يعد الزوجان إعدادا صحيحا دقيقا لهذا الطور الهادئ المريح الخصب من حياتهما، وإلى هنا يتفق مسيو ليون بلوم والأستاذ أحمد أمين.
Unknown page