وقالت له نفسه: «سر يا رفيقي على هداك حتى تبلغ، لست من هؤلاء الناس، ما أنت في الحياة إلا عابر سبيل ...!»
في عيد الربيع
منذ عام لم تكن «نضار» في مثل حالها اليوم ... شتان بين ما كانت وما صارت!
ها هي ذي تخرج اليوم من محبسها الذي اعتزلت فيه الناس أشهرا لا تراهم ولا يرونها إلا كما ينظر العابر العجلان إلى تمثال قائم في عرض الطريق!
لم يكن ثمة ما يربطها بالناس بعدما مات أبوها وهجرها خطيبها، فما شأنها وشأن الناس وماذا ترجو منهم؟ وماذا يرجون؟
لقد عرفت من طباع الناس وهي معتزلة بعيدة أكثر مما كانت تعرف وهي تخالطهم وتعيش بينهم، وكذلك لا تتكشف حقائق الأشياء إلا لمن ينظر إليها من بعيد!
منذ عام مات أبوها، وما كان لها في الحياة غير أبيها وغير خطيبها «رشيد»، وكانت تعيش من بيت أبيها في نعمة سابغة وظل وارف، ولم يكن لأبيها - منذ ماتت زوجته - غاية يسعى لها غير إسعاد ابنته، فقصر عليه عواطف قلبه ونوازع وجدانه وعاش لها، لا يرى لنفسه حقا في متاع من متاع الرجال ما دامت ابنته سعيدة!
وكان لأبيها وظيفة ذات أبهة ومظهر، وكان لها جمال يفتن ويسحر؛ فتهافت الشبان على التماس رضاها والحظوة عندها، ولكن فتى واحدا هو الذي استطاع أن يحملها على الإذعان والرضا، وعرفها رشيد وعرفته، وعرفه أبوها، وتواعدا على ميعاد تنتقل فيه نضار من بيت أبيها إلى بيت رشيد! ... وعاشت حينا سعيدة بأحلامها، لا يشغلها هم من هم الحياة، واستيقظت فجأة من أحلامها حين وجدت أباها مسجى في فراشه والطبيب بجانب سريره ناكس الرأس أسوان، ورأت في عيون الرجال من عواد أبيها دموعا تترقرق، فصرخت في لهفة: «أبي ...!» وتلاشى الصدى ولم تسمع جواب أبيها ... ودنا منها خطيبها يواسيها وفي صوته نبرة حزن، ولمعت دمعة بين أهدابه فأطبق جفنيه ولوى وجهه ...
وخرج أبوها من الدار إلى غير معاد، وخرج خطيبها يشيع الجنازة فلم يعد، ولبثت الفتاة وحدها تنتظر ...
وخرس جرس الباب فما عاد يستأذن عليها أحد ... وما عادت تسمع خفق أقدام أبيها عائدا من الديوان بعد الظهر، ولا صوت نداء خطيبها قادما لزيارتها في المساء؛ أما أبوها فإنها تعلم أين ذهب، وأما خطيبها ...
Unknown page