ونظر الغلام إلى شيء في أيدي صحابته فاشتهته نفسه، أفيطلب أن يقاسمهم وما تعود؟ ولكن أباه أخذه بألا ينظر إلى ما في أيدي الناس، وكم علمه بالحكاية، وكم ضرب له من الأمثال: أن الحيوان الضعيف هو الذي يعيش على ما في الأيدي!
ورأى الأطفال شهوته في عينيه، فاستخفوا منه يلتهمون ما في أيديهم!
وشب الغلام، فدفعه أبوه إلى المدرسة، وعلمه في أول لياليه وقد رجع من مدرسته: «إن هؤلاء يا بني أهلك هنا بإزاء أهلك هناك، فأحسن فيهم رعاية الود، وكن بينهم أخا في إخوانه!»
وقال له زميله في المدرسة ذات يوم: «هل تعينني على كتابة درسي؟» فلما أعانه مضى الزميل وخلفه يعالج درسه وحده!
وسمع المعلم ذات مرة همسا بين تلميذين، وكان جاره يطلب منه قلما، وغضب المعلم وصاح: «من يتحدث؟» ولصقت التهمة بالمظلوم، فتلقى الصفعة صامتا وجاره يبتسم فرحا بالنجاة من كف غليظة! وفي الطريق شاغب التلاميذ في أحد الأيام شيخا أعمى يدب على عكازه، فلما توعدهم وهز لهم العصا، فروا وبقي الغلام لأنه بريء، فلم تنل عصا الرجل أحدا غيره! لقد آلمته الضربة ولكنه تقدم ليهدي الرجل الطريق!
وأيفع الغلام، واستدناه أبوه إليه وهو مطوي في الفراش على نفسه من وهن الشيخوخة، ولبث الشيخ طويلا يصوب النظر في الغلام ويصعده، ثم تكلم: «ليتك يا بني ملء عيني كما أراك ملء قلبي! ولكني أرى في وجهك اليوم ما كانت تريني المرآة منذ عشرات وعشرات، فلا جرم أن تبصر يا بني في مرآتك بعد عشرات وعشرات صورة أبيك! ستكون أميرا يا ولدي، سيستجيب الله دعائي لك، وما انقطع دعائي لك منذ ولدت، فأحب الناس، وهب نفسك للجماعة! كن رجلا قويا يا بني، كن للناس فيض الحب والرحمة، ولا تستجد الحياة ما لا تعطيك، السعيد يا بني من يعطي لا من يطلب العطاء!»
وتكرر هذا من أبيه أياما، كأنه يريد ألا يموت إلا وقد وضع نفسه في ابنه!
ثم مضى أبوه في رحلة طويلة لا رجعة منها إلى هذه الدار. يا حسرتا! هذا هو في الفراش مسجى والنائحات تنوح! وأخفى الفتى عينيه يستر دمعه، لقد علمه أبوه أن يكون جلدا، فليحفظ وصاة أبيه.
ونظر في وجوه المشيعين في الجنازة فما رأى بينهم رجلا كالذي فقده، فعلم أنه فقده إلى الأبد، وتصور الدار الخلاء إلا من أمه وأخواته. يا للفاجعة! يجب أن يكون رجل الدار، لقد لقنه أبوه لمثل هذا اليوم دروس الرجولة منذ كان في المهد صبيا. وهتف بالكلمة الغالية لآخر مرة: «يا أبي!» وغلبه الدمع فاستعصم وعاد يقول: «ستنام هادئا يا أبي، فإنني أنت هنا!»
وعاد إلى الدار مطرق الرأس، ليضع يد «الرجل الصغير» في أكف الرجال الكبار يشكرهم على ما جاءوا لتعزيته: أجاءوا يعزون «الرجل الصغير» أم جاءوا يحصون ما خلف الميت وأنفسهم تسيل طمعا؟
Unknown page