وقال لهم: الموكب الموكب.
كان النجارون وأشباه النجارين، مشغولين في صناعة الصلبان الثقيلة، الجنود ال 66 يلعبون الورق، والرجل يعلم الكلمة للمؤمنين به وللكافرين على حد سواء، ويعدهم للموكب، لا يدرون متى قال لهم: الكفر يا أحبائي درجة بالغة التعقيد من الإيمان.
النخاسون
يبدو أن مصائرهما قد ارتبطت بعضها البعض رباطا لا فكاك منه، وليست هي الصدفة وحدها، ولكنهما في أحيان كثيرة كانا يسعيان لذلك، قد التقيا في المرة الأولى بتخطيط من القدر، وعملت أياد نجسة - وسمياها فيما بعد شيطانية - كثيرة في جعل ذلك اللقاء: ممكنا، مؤلما ونهائيا.
في 23 نوفمبر 2002 حوالي الرابعة مساء، عند نقطة تفتيش سوبا على مشارف مدينة الخرطوم، توقف الباص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان والزمان، ترجل السائق وفي معيته المضيف، اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد، وبالأخرى يحمل قلما أزرق ماركة بك، يرتدي بذلة سفاري رمادية، له عينان صغيرتان ضيقتان، ولكنهما حادتان كعيني نسر كاسر، بنظرة واحدة - في ثوان معدودات - شاهد كل الركاب. نظر إلى قائمة المسافرين، خطط بقلمه ثم أشار إلى البعض بأن يترجلوا من الباص ويتبعوه، وذلك دون أن يكلف نفسه قول كلمة واحدة، نزل خمسة من الشبان في أعمار متقاربة - بصمت - في ترقب مضوا خلف الرجل ذي السفاري الرمادي، الذي دخل خيمة من الكانفاس غبشاء، تقع شرق الطريق السريع، خلفها يقف لوري عليه قفص من الحديد به نوافذ صغيرة للتهوية منسوجة من السيخ الصلب، باختصار كان اللوري قبيحا، بائسا ومثيرا للتشاؤم. وانتبه الجميع وهم يصعدون إليه، إنه أشبه بقبر من الحديد على الأسفلت.
يصعب تتبع الدوامات الأولية التي وجدا فيها نفسيهما؛ لأنها كانت سريعة، بل تمر بصورة لولبية وعنيفة لا تصدق، أدخلا عددا من المكاتب الحكومية الصفراء التي تفوح من جوانبها رائحة الورق والسجائر البرنجي، مختلطة بزنخ الجوارب المتعبة، قابلا رجالا من العسكر والمدنيين لهم نفس الملامح والسحنات، تم سؤالهما ذات الأسئلة مرارا وتكرارا، وقيل لهما ذات الكلام مرارا وتكرارا، وحذرا من ذات الأفعال، فعل ذلك كل من التقى بهما من الرجال العسكريين والذين أخطر منهم وهم «العسكر ومدنيون»، طلب إبراهيم خضر، وهو الأصغر عمرا، كان شحما بعض الشيء، يتحدث بصورة متقطعة، وهي عادة ورثها جدا عن جد، طلب منهم أن يتركوه يوصل أخته التي تدرس بالجامعة وهي في سنتها الأولى وزيارتها الأولى لمدينة الخرطوم، أن يوصلها إلى الداخلية ويكمل إجراءات تسجيلها ويعود إليهم مرة أخرى، ضحكوا من سذاجته وقالوا له فيما يعني: تجدها عند الغافل، وأكد له «عسكر ومدني» نحيف له شفاه مبتلة ترتجف لاإراديا، أن الحكومة سوف تعين لها من يسهل كل ما يخصها، فقط عليه أن يتفرغ لأداء الخدمة الوطنية العسكرية الإلزامية، وأن يمضي إلى المعسكر خالي البال من كل هم.
الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضا، هو شيكيري توتو كوه، الذي ظل صامتا طوال فترة التحقيق، حتى إنه لم يذرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين، عندما أقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن الروسية العجوز نحو ما لا يعلمون من البلاد، لكنهم جيمعا كانوا موقنين أنهم يتوجهون إلى ميدان معركة ما، حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد أن قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوما السابقة، وكانوا يعرفون أنهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا إذا كانت في الجحيم مدينة بهذا الاسم.
الشخص العادي - وأقصد هنا الطبيعي - في رأي إبراهيم خضر، هو الذي لا يرى غضاضة في أن يحب مدينة نيالا ويعشق الأستاذ محمود محمد طه. لا يوجد ربط بين الاثنين غير أنهما ينطبقان على الشخص الطبيعي، شيكيري توتو كوه لم يسمع بالأستاذ محمود محمد طه قبل أن يلتقي إبراهيم خضر، الذي ينتمي لهذا المفكر والفكرة معا، ولا نظن أن ذلك سوف ينقص من أن شيكيري توتو كوه شخص طبيعي، ولكن والده توتو أخبره كثيرا عن مدينة نيالا، وحكى له عن أخته غير الشقيقة التي انقطع عنها قبل ميلاده، بل قبل أن يتزوج كاجيلا أمه، تسكن حي الوادي. يستطيع الآن أن يتذكر اسمها؛ لأنه غريب، وكان دائما ما يوحى له بصورتها، بل كان يراها كما يصورها اسمها وسط عشب كثيف وأبقار وأغنام ترعى، ومطر لا يتوقف. كان اسمها خريفية تور جاموس، سوف يبحث عنها عندما يستقر به الحال في المدينة، وإذا سمحوا لهم بالخروج من المعسكر. لا بد أنها قد أصبحت عجوزا كما هو الحال بأبيه الآن.
يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم الذي اختيرا فيه عشوائيا من قبل أيد ما، للعمل ضمن وحدة الاستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أدغما فيها، وعندما شاهدا بعضهما البعض تذكرا ذلك اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة الخرطوم، ربما قابلا بعضهما البعض في معسكر التدريب بصحراء بغيضة شمال الجيلي، ولكنهما كانا وسط ألفين وثلاثمائة واثنين وعشرين مجندا، وكان المجندون إما مشغولين بالهرب؛ لأن الفرصة الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات، بالرغم من الحراسة المشددة التي به، إلا أن المجند إذا لم يتمكن من الهرب منه، فإنه لا محالة مواجه للموت في معركة ما، ضد سودانيين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أو صحراء ما، وإما أنهم مشغولون بمحاولة الاتصال بأحد ذويهم من أولي النفوذ الواصلين لكي يتدخل في الوقت المناسب ويفك أسرهم. في المعسكر الوقت يمضي سريعا نحو ميدان القتال، ولا أحد يثق في الآخر، فيشاع أن من بين المجندين مندسين يعملون لصالح السلطة، ولا يعرفون إلا عند الذهاب للقتال، حيث إنهم يتخلفون، وإذا اشتركوا في المعركة فإنهم بصدد تصفية بعض من يسمونهم الطابور الخامس. والمربك في الأمر أن أيا من المجندين عرضة لكي يصنف طابورا خامسا ولأسباب واهية، ربما لطريقة لبسه أو لمجرد كلمة تفوه بها عرضا، بل لمجرد لون بشرته؛ لذا لم تتوطد علائق لا جيدة ولا حسنة من قبل، بين شيكيري توتو كوه وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين أحدهما وأي إنسان آخر. ونستطيع أن نقول: الأيام الأولى لهما في شعبة الاستخبارات شهدت شكوكا متبادلة بين الاثنين، ومشادات عنيفة كادت أن تنتهي بمعركة يدوية لولا برود أعصاب إبراهيم وحكمة شيكيري، ولكنهما وجدا نفسيهما معا ذات موقف إنساني عميق وظلا معا للأبد.
الليل في الصحراء بعيدا عن البيت لا يعني شيئا غير العدم، والصحراء لا تعني للجندي غير الهلاك، الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدو أجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبناها، ولكن الحديث هنا عن الجندي الذي يدفع للحروب دفعا، الذي يصفي السياسيون بدمه حسابات ومطامع تخصهم، حتى إذا كانت ضد قبيلته وأسرته، بل مسقط رأسه، مثل الذي ظل يحارب ثلاثين عاما في ميدان معركة ولا يدري شيئا عمن يقتل أو من سوف يقتله هو في آخر المطاف، ذلك الجندي الحزين. وكان إبراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين توجوا بهذه الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني ترابهم.
Unknown page