على كل هو ليس قلقا على ما تناله عبد الرحمن من قوة، فعبد الرحمن محاربة شرسة وذكية وصبورة، وفوق ذلك إنها لا تريد أن تموت في المعركة أو تؤسر، وهما فضيلتان يجب أن تتوافر في الجندي الذي يسعى للنصر. أما ما يهم إبراهيم خضر فهو صديقه شيكيري، الذي لا ناقة له ولا جمل في هذا الصراع الخفي العنيف، في هذه الحرب التي زجا فيها زجا. أخبر إبراهيم شيكيري بمخاوفه عليه، وألمح له أن عبد الرحمن سوف ترمي به في جب لا نجاة منه، وأنه قد يفقد حياته، ولكن شيكيري الذي يحب عبد الرحمن، وبدأ يحب لعبة الحرب، كان رأيه أنه لا وسط فيما يجري الآن في المنطقة؛ فإما أن يحارب في صفوف الحكومة والجنجويد، أو في صفوف الطورابورا: اختار الأخير، على الأقل لأن عبد الرحمن هناك.
مرت أشهر الخريف بهدوء، وجرت مفاوضات عن طريق وسطاء عرب بين الحكومة وبعض الحركات، ومنها الحركة التي يتزعمها شارون، عبد الرحمن حضرت المفاوضات أيضا، ما كانت عبد الرحمن تتوقع نتيجة إيجابية لمثل هذه المفاوضات، ولكنها على كل حال عبارة عن هدنات يعيد فيها الأطراف جميعا ترتيب أوضاعهم وتأمين الإمدادات العسكرية والطبية لمقاتليهم، ويحاول كل طرف من خلالها أن يحطم معنويات الآخر.
شارون يرى أن الحرب بالنسبة للحكومة والجنجويد قد أدت غرضها بنسبة 90٪، وهو المتمثل في تهجير قبائل الدارفوريين إلى ثلاث جهات: المعسكرات في تخوم المدن الكبرى، مثل نيالا، الفاشر والجنينة، وقد تبنى لهم قرى نموذجية بتمويل عربي إسلامي يجبرون على الإقامة بها، وإما إلى دولة تشاد كلاجئين، أو للآخرة كموتى. وما تبقى من ال 10٪ إما أنهم يعيشون كرق في القرى التي يسيطر عليها الجنجويد، أو ينتظرون دورهم من الموت والتهجير لتحل محلهم المجموعات البشرية القادمة من النيجر وجمهورية تشاد تحت مسميات قبلية كثيرة ولقب مرعب واحد هو الجنجويد: جن على ظهر جواد وفي يده جيم ثلاثة، أو مقاتلون في أحراش دارفور.
استيقظ المعسكر ذات صباح على شجار ما بين مريم المجدلية وعبد الرحمن كانتا تشتمان بعضهما البعض بألفاظ نابية وجارحة، استطاع الناس من بين هذه الشتائم والاتهامات أن يسبروا غور المشكلة، أو ظنوا أنه كذلك. توصلوا إلى أن عبد الرحمن تتهم مريم بالسعي إلى غواية زوجها شيكيري توت كوة، بل تدعي أنها وجدتهما مرارا وتكرارا معا، وتتهم مريم أيضا عبد الرحمن بأنها داعرة كبيرة، وأنها تمارس الجنس مع الجنود لتقنعهم بالوقوف إلى جانبها ضد شارون، صاحت مريم بصوت عال وواضح، إن عبد الرحمن كانت تستدرج الجنجويد عن طريق شرفها.
كانت هذه الإساءات مؤلمة لشيكيري، صحت أم كذبت. ولو أن عبد الرحمن قالت له ذات يوم، عندما ناقشها في شأن صيد الجنجويد، وحاصرها في ركن ضيق، وكان عليها أن تعترف بسر ما، قالت له إنها تحارب بكل ما لديها من أسلحة، وألمحت إليه أن جسدها واحد من تلك الأسلحة، وأنه أكثرها ضراوة. أما مسألة الشرف، فلم يترك لها الجنجويد شرفا تحافظ عليه؛ لذا من جانبه يشك في كل شكل من أشكال التقارب بينها وبين شارون، ولم تمر شتائم مريم لها مرور الكرام، دون أن تحرك أنياب المخافات فيه، ودون أن تدعه يحدث ذاته بأن عبد الرحمن في سبيلها للسلطة قد تفعل. أما شتائمها لمريم واتهامها لها بأنها تسعى لغواية زوجها، فكانت صحيحة، بل إن شيكيري ومريم فعلا كل ما يمكن أن يفعله شخصان ناضجان يؤمنان بأن الجسد يستطيع أن يفكر بعمق ولذة أكثر مما يفعل العقل. ولم تكن لدى عبد الرحمن المعرفة الأكيدة بما وصلا إليه من تواصل حميم، ولكن حدثها قلبها، فصدقته وافتعلت الشجار، كانت تريد أن تحتفظ بشيكيري، لا تدري ما إذا كانت تحبه حقا أم أنها تريد رجلا قربها لا أكثر.
حسم شارون المعركة بإعلانه الاستعداد الفوري. لقد شوهدت طائرة تحلق في أجواء ليست ببعيدة عن موقع المعسكر، أنتنوف صغيرة الحجم، تحلق عاليا، واختلف القادة ما بين أن يطلقوا عليها المضادات الصاروخية، أم أنها طائرة مدنية. لتوخي الحذر دخل المقاتلون المخابئ، وانتظر مطلقو الصواريخ الأوامر العليا، الطائرة تذكرها بأيامها الأولى بمعسكر كلمة، الذي يقع جنوب مطار نيالا، ولا تفصله عن المطار مسافة شاسعة، وعندما تشعل محركات الطائرات ويسمعها الأطفال في المسكر مساء أو في الصباح الباكر، فإنهم يتبولون في ملابسهم، تهرب الحمير رافعة آذانها للأعلى، وأذنابها منتصبة في خط مكتمل الاستقامة، متوازيا مع جسدها الذي ينطلق على سطح الأرض بسرعة مائة كيلومتر في الساعة، تصيح الدجاجات والديوك كما لو أن ثعلبا شرسا دخل قنها. أما عبد الرحمن، فعلى الرغم من كبر سنها مقارنة بغيرها ممن خبروا تجربة حرب الطائرات، ما زالت تحس بالرعب يتملكها عندما تسمع صوت الطائرة، أو تراها؛ لذا كانت من أنصار أن يطلق الصاروخ على الطائرة إذا حلقت مرة أخرى قريبا من المعسكر، أو حتى بعيدا عنه، طالما كانت في مقدرة الصاروخ أن يسقطها؛ لأنها حتما ستذهب إلى قرية ما، وهناك أطفال ما سوف تقتلهم، وبيوت كثيرة ستقوم بحرقها وإحالتها ومن فيها إلى رماد.
مرت الطائرة بسلام، ولكن لم تمر أزمة الطائرة بسلام؛ لأن أحد الجنود أطلق صاروخا مضادا للطائرات تجاه الأنتنوف، لكن لسوء الحظ أو لحسنه لم يصبها، قال إنه لم يستطع أن يتمالك أعصابه، وإنه عندما يرى الطائرة يغمره نفس الشعور عندما يرى الجنجويد أو العقرب، عليه أن يفعل شيئا لقتلها. وأيدته بشدة عبد الرحمن، ووبخه بشدة شارون، وفي اجتماع صغير ضم القادة لتقييم الوضع، اختلفوا في استراتيجية حرب الصيف، التي بدأت بوادرها في الظهور، كطائرة الاستطلاع سالفة الذكر، وكان شارون يصر على ذات النهج؛ أي إنه لا يهاجم أيا كان، إنما يترك العدو يأتي إلى حيث ينتظره، ليموت بين يديه في كمين محكم، وهذه الخطة تعتمد على التغذية من داخل المدينة وأحيانا من المتعاونين من الجيش النظامي والمندسين داخل صفوف المجاهدين، وهي مكلفة بشريا وماديا، ولا تكلل دائما بالنجاح، فعندما تفشل فنتائجها وخيمة، و«يا ما كانت» هنالك أوقات مؤلمة وحرجة عاشها المقاتلون يوم أن صار الكمين الذي نصبوه للجنجويد، كمينا لهم في ذاتهم، وهنالك ذكريات وقصص مؤلمة تحكى في هذا الشأن.
عدد لا يستهان به من القادة الميدانيين اقتنعوا بفكرة عبد الرحمن، وهي مقاتلة الجنجويد في القرى التي استولوا عليها وحرقهم فيها، بطريقة الهجوم السريع المباغت، بأكبر عدد من المقاتلين والرشاشات المحمولة على عربات اللاندكروزر السريعة والانسحاب الفوري. ولكن الاجتماع انتهى بالعمل بفكرة شارون، الذي له تجارب في الميدان تدعم حجته، ولا يتخيل مثل عبد الرحمن النصر والهزيمة تخيلا؛ لأن عبد الرحمن لم تخسر معركة إلى الآن، لم تذق طعم الهزيمة وتواجه الموت، وذلك علم عسير.
ويؤكد شارون أن لذة النصر أن يأتي العدو ويموت حيث تريد، ويعرف العارفون أن شارون يقرأ كثيرا مذكرات جيفارا، ويمتلك الكتاب الذي ألفه فيدل كاسترو عنه، ويعتبر جيفارا هو مسيح المناضلين ومذكراته إنجيلهم، ولكنه كما يقول دائما عن نفسه إنه يؤمن ببعض الكتاب، ويتمنى لو أن لقبه كان جيفارا بدلا من شارون، ولو أن اسم جيفارا سيذكره بصديقه الشهيد أبكر جيفارا، أول من استشعر خطر الجنجويد، وأول من حمل السلاح للدفاع عن أهله بدارفور. كان يعيب على جيفارا شيئا واحدا، ويشترك فيه كثير من مقاتلي دارفور، وهو أن صديقه الشهيد كان يفهم نصف واقع الحرب، ويجهل النصف الآخر. ويشرح شارون ذلك بأنه لا يفهم كيف يحارب الرجل ضد الثوار في الجنوب، ويقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم، ويحرق قراهم دون رحمة، بل يعتبر ذلك مرضاة لله - سبحانه وتعالى - وجهادا في سبيله، ثم ينقلب بين ليلة وضحاها، ليصبح ثوريا عندما تهم ذات السلطة التي كانت تستخدمه، بذات المبادئ وذات الشعارات والأخلاق، بإدارة الحرب في مسقط رأسه، مستخدمة بالطبع آخرين أو إخوته، أو هو في ذاته بأسلوب ميتافيزيقي قد لا يتأتى عليه فهمه تحت ظل عطر البارود وقعقعة الرصاص.
كان شارون يسمي ذلك شزوفرينيا المستلب، الذي ليس بإمكانه أن يفهم أكثر من بعض الحقيقة، ولا يعي سوى بعض الواقع؛ بالتالي لا يقوم سوى بشيء من الواجب، وقد يكون ضرر هذا الشيء أكثر من نفعه ؛ فالثوري يحتاج للقلب النقي أكثر من اليد القوية، أو الاثنين معا بذات المقدار.
Unknown page