تتكون مجموعة المحاربين الطورابورا من قبائل كثيرة، تجمع بينهم أنهم مستهدفون من قبل الحكومة المركزية بصورة خاصة، يطلقون عليهم الزرقة، وهو لفظ خجول بديل للفظة السود. يقود المعسكر رجل شرس من قبيلة المساليت، يلقبونه بشارون، شاب له جسد صلد ورياضي، بشوارب ووجه حاد التقاطيع، أهم هواياته الضحك بصوت عال وابتكار الخدع العسكرية، لم يدخل معركة مع أعدائه وهم مستعدون لها مطلقا، بل كان دائما ما يفاجئهم في الزمان والمكان الذي لا يتوقعونه فيه، ويقول إن تلك هي عبقرية الحرب، ورسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم
يقول: «الحرب خدعة».
ويقول شارون إنه تعلم من هزائم الخليفة عبد الله التعايشي كيف ينتصر؛ فالخليفة كان يعتبر الحرب رجولة وشجاعة، وهي عكس ذلك، فلكي تنتصر عليك أن تخاف من قوة عدوك، مهما كان واهنا، مرتبكا وعلى باطل، مهما كنت أنت قويا، مرتبا وعلى حق. كان شخصا مثقفا، تخرج في كلية الاقتصاد جامعة المنصورة بجمهورية مصر العربية في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم. تزوج نساء كثيرات، أنجب أطفالا أكثر، وهو يدعو دائما أن يتزوج الرجل من دارفور كل النساء اللائي يقبلن به زوجا، وذلك لتعويض المفقودين في الحروب. كان رقيقا شرسا في ذات الوقت، لا يصبر على الجنجويد دقيقة واحدة. لقد حرق الجنجويد قريته وقتلوا أباه، والآن يسكنون فيها، وهم يعتقلون عددا من السكان الأصليين، يستخدمونهم كرق في العمل بذات مزارعهم، جنائنهم وأراضيهم، يغتصبون نساءهم.
بعد معركة قصيرة غير متكافئة وقعت بين أهل ضلاية، والجنجويد وجيش الحكومة مدعومين بالطيران الصيني العنيف، قبل ما تبقى من سكان ضلاية بالهزيمة، على أن تبقي الحكومة على أرواحهم. جردوا أولا من كل الأسلحة، حتى تلك البيضاء، وكانوا يطلبون منا أن نشترك في الدوريات الليلية لحماية القرية حاملين عصا من الحطب والسياط، بينما يحمل الجنجويد الأسلحة النارية. وكانوا يضعون كل عشرة من الرجال الدرافوريين، يسمونهم جهرا وفي أوجههم أمبايات، وهي بعربي دولة النيجر موطنهم تعني العبيد؛ يوضعون وسط خمسين من الجنجويد، حتى لا يتمكنوا من الهرب أو المقاومة، وكل الرجال الدارفوريين أو الأمبايات على حد قول الجنجويد المتبقين بالقرية لا يتجاوز عددهم السبعين، هم ينقصون بصورة مستمرة. لقد كانوا مائة وخمسين رجلا، جلهم مات في مقاومة فاشلة، أو قتل أثناء هروب لم يكتب له النجاح، أو مات واحد لواحد؛ أي خنق أحد الجنجويد إلى الموت، ولم يطلقه إلا وهو مقتول عليه.
يظل الدارفوري الليل كله في الدوريات مع فرقة من الجنجويد تتغير باستمرار، لتحل محل دورية أخرى من الجنجويد كانت في بيوت الدارفوريين حيث النساء والطفلات، تقوم باغتصابهن، يحدث هذا كل ليلة. وكل من يحتج منا يتم قتله. الآن بالقرية جيل كامل من الأطفال، آباؤهم من الجنجويد وأمهاتهم من الدارفوريين.
الغريب في الأمر أن مسئولا كبيرا في صحبة بعثة من الأمم المتحدة زاروا تلك القرية، واعتبرت أنموذجا للتعايش الإرادي السلمي ما بين الجنجويد والدارفوريين، وهي برهان لتكذيب كل الأقاويل والافتراءات الغربية التي تتحدث عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وما يسمى بجرائم الحرب واستحالة التعايش بين الشعبين. يحكي شارون ذلك لكل من يجالسه في أول دقيقة، ويعلن أن أول أهداف ثورته هي تحرير مواطني قريته ضلاية، ثم يضيف لك في يأس: لا يمكن أن تحرر ضلاية ما لم تحرر دارفور كلها؛ لأنه يحيط بها أكبر ثلاثة معسكرات للجنجويد والمجاهدين في العالم.
للرجل علاقة جيدة مع كل جنوده ومع الأسرى أيضا، يظل مرحا، وتسمع ضحكته في كل أرجاء المعسكر إذا لم تكن هنالك محاولة هروب لأحد الأسرى، فاشلة كانت أم ناجحة، حينها يتحول هذا الرجل إلى وحش كاسر لا يرحم، ومن هنا أطلق عليه لقب شارون، ذلك البحار الذي يأخذ الأرواح إلى جزيرة الموتى؛ لأن شارون حينها سيأخذ أرواحا كثيرة في قاربه إلى جزيرة الموتى.
كان الوقت أواخر ديسمبر، لا تزال الأعشاب تحتفظ بشيء من الخضرة، وأشجار السيال والنبق وبعض اللالوبات العملاقة ما زالت مخضرة وبهية. التقط منظار الحرس هيئة شخص على ظهر فرس يهيم بين الأشجار التي تقع جنوب الوادي الكبير، ويحدد المنظار المسافة بثلاثة كيلومترات لا أكثر، ولا يختلف جنديان في تفسير هذه الظاهرة؛ فهو جندي استخبارات في طليعة قوة سوف تظهر عاجلا أم آجلا من مكان ما قريب، ووصف في الوقت ذاته بالبليد؛ لأنه لا يمكن أن يستخدم فرسا إلى هذه المسافة القريبة، ويعرف الجميع موقع المعسكر، والغريب في الأمر كان الهدف يقترب أكثر وأكثر من دفاعات المعسكر المتقدمة، ويقترب أكثر من حقل الألغام البشرية ويتخطاه، بعد أن عبر ألغام المدرعات والآلات الثقيلة عبرها كالشبح، هنا انتبه المقاتلون بأن الهدف ليس عسكريا، وأنه يرفع الآن بيرقا أبيض؛ فأسرعوا بإرشاده إلى المدخل الآمن.
كانت فتاة هزيلة، ولكنها لا تبدو منهارة، بل بالعكس، كانت متماسكة، وتتحدث بثبات، عرفت عن نفسها، وطلبت أن تقابل هارون، وهو الاسم الحقيقي لشارون. أكلت قدرا كبيرا من العصيدة بالويكة التي قدمت لها، تعرف عليها شارون بمجرد أن رآها، كانت تعرفه من زمان مبكر، منذ أن كانت تعمل مساعدة لصانعات الشاي بموقف الجنينة بنيالا، تعرف إحدى زوجاته وأطفاله، كانوا يسكنون حي الجير، قبل أن يختفوا تماما عن المدينة، قالت له إنها جاءت من أجل زوجها شيكيري توتو كوه الأسير لديه؛ مما جعل كل من يستمع إليها يكاد أن يموت من الدهشة، وكانت فرصة لشارون أن يطلق ضحكته المجلجلة تلك، كان شيكيري في تلك الأثناء يعمل مع صديقه إبراهيم ومفرزة من المقاتلين على حفر خندق كبير خلف الجبل لغرض لم يفصح عنه شارون، عندما أتاه المنادي، خفق قلبه بشدة، وبدون أية مقدمات سأل المرسال ما إذا كانت زوجته عبد الرحمن أو عمته خريفية بانتظاره.
Unknown page