أما عباس فوزي - معجم السخريات اللاذعة - فكان يعرب عن رأيه فيه، ولكن في حذر وعلى مهل، ونقطة نقطة متجنبا سكب ما في نفسه دفعة واحدة، فيوما قال عنه: إنه وجيه نبيل، مملوك من نسل مماليك!
وتأملت قوله طويلا على ضوء ما أعرفه من خبثه، وساءلت نفسي عما يقصد الشيطان، ومرة استمع إلى ثناء جميل مني على الأستاذ ثم قال: هذه هي فضائل الأغنياء النبلاء وهي فضائل لم تتعرض للتجارب المريرة!
ومرة ثالثة قال لي: في مصر لا يجتمع النبل والثروة والعلم، ولكن النبيل الغني متعالم، يستغل ذكاء الفقراء، يجمعون له مواد البحث ويقترحون عليه الأفكار، أما هو فيصغي بوقار ويوقع بإمضائه!
ومرة رابعة قال لي: أستاذك ذواقة لكل طعام جيد، يلتهم في اليوم ما يكفي لغذاء لواء من الجيش، خبرني يا عزيزي متى يفرغ من الهضم ليتفرغ للتفكير والبحث؟
ولكنا كنا نتصل بعقل الأستاذ اتصالا مباشرا، وندرك مدى ما يتمتع به من دقة ووضوح وغزارة في العلم، ومرت به الأحداث وهو ثابت في وقاره، ولكني استشففت قلقا في ذاته في مواقف من حياتنا لا تنسى، مثل الاغتيالات السياسية، حريق القاهرة، ثورة يوليو، القوانين الاشتراكية، ولكنه لم يجاوز القصد أبدا، ولا أظن أن إقطاعيا تلقى الضربة التاريخية في مثل هدوئه، تلك الضربة التي نزعت من يده عشرة آلاف من الأفدنة، وقد باع قصره القديم بالمنيرة، واشترى فيلا جميلة بمصر الجديدة، ما زالت حتى اليوم تستقبل أهل الفكر والرأي، وواصل عمله الجامعي بنفس الهمة حتى أحيل إلى المعاش عام 1954 لبلوغه السن القانونية، فعمل أستاذا زائرا، وعين عضوا في المجلس الأعلى للآداب، ونال جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، كما نال وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، إذن قدرت له الثورة مكانته العلمية، وسمعته العطرة، واستقامته العامة التي أبعدته عن الشبهات، وهو وإن لم يعلن ولاءه للثورة لبعده عن مجالات الإعلام ولرغبته عن إقحام نفسه فيها بطريقة غير طبيعية أن يرمى بشيء مما يمس الكرامة، فإنه لم يتردد في إعلان ذلك الولاء في مجالسه الخاصة، فقال يوما: إني مقتنع بما يقع فهو أقل ما يمكن عمله كي يصلح الوطن للحياة وتصلح الحياة له.
ولم أستشعر في حديثه أو سلوكه أي أثر لمرارة، ولا معنى بعد ذلك للتنقيب في الأفئدة، فلا يطالب مثله بأكثر من ذلك، أكثر من أن يواجه بحكمة ثورة تاريخية منطلقة أصلا لاقتلاع طبقته، وأن يقنع نفسه بها فلسفيا كحركة تاريخية حتمية لا مفر منها طال الزمان أو قصر. وفي عام 1969 احتفل بعيد ميلاده الخامس والسبعين، فازدحم الصالون بمن بقي على قيد الحياة من أساتذة الجامعة القدامى، وبالأصدقاء سالم جبر ورضا حمادة وعزمي شاكر وكامل رمزي وقدري رزق وجاد أبو العلا وعباس فوزي وصادق عبد الحميد ونعمات عارف نيابة عن زوجها زهير كامل، وهفت علي ذكريات إبراهيم عقل وجعفر خليل، ورأيت قلة من الشباب بينهم صبري جاد وزوجته كاميليا زهران، ولكن غلب الشعر الأبيض والتجاعيد والنظرات المجردة والعصي، ولم أشعر من قبل كما شعرت ذلك اليوم بمرور الزمن وثقله وجلاله وغدره وأبديته وأثره وترفعه وتواضعه وحكمته ونزقه، كأنما غفوت في الديزل إغفاءة طويلة استيقظت بعدها في محطة سيدي جابر. ورغم كل شيء فقد بقي لماهر عبد الكريم عيناه الزرقاوان الواسعتان وابتسامته الغازية ووقاره العذب. قال أستاذنا: لا احتفال بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فلا يجوز أن نحتفل ونحن نقاتل، ولكنها فرصة طيبة للاجتماع.
وشرق الحديث وغرب ولكنه كان يرتد إلى بؤرة واحدة وهي الصراع في الشرق الأوسط، ويعالج على مستويات سياسية واقتصادية وفلسفية ودينية ، ويتفرع إلى الموقف العالمي والكشوف العلمية والمشكلات العامة الإنسانية والاضطرابات الخطيرة في الغرب والشرق وذبول القيم والمستقبل، أجل المستقبل، وبأي وجه يطالعنا، وطغت موجة من التشاؤم، وترددت كالهنك المطرب بين الشيوخ، طوبة يرمون بها الدنيا المولية، واشترك أستاذنا في الجوقة ولكن بنغمة أخرى، وفجأة قال: رحم الله إبراهيم عقل.
ما الذي دعاه إلى تذكره؟ كان أحب الأصدقاء إلى قلبه، ولم أشهد دمعه إلا يوم جنازته عام 1957، وتذكرت بدوري كلمته لنا قبيل التخرج، وعاد يقول: سلم بالإيمان تسليمه بالموت وبالحقائق الملموسة مثل شروق الشمس.
وابتسم طويلا ثم قال: قولوا في الدنيا ما شئتم، لا جديد في التشاؤم، ولكن الحياة في صالح الإنسان وإلا ما زاد عدده باطراد، وما زادت سيطرته على دنياه.
محمود درويش
Unknown page