أما يثرب فقد كان شأنها يختلف عن شأن هاتين القريتين اختلافا شديدا؛ فهي أولا بعيدة عنهما بعدا يحول بينها وبين مشاركتهما في كثير أو قليل من الأمر، وهي ثانيا لم تكن خالصة لقبيلة واحدة كما كانت مكة خالصة لقريش وكما كانت الطائف خالصة لثقيف، وإنما كان يسكنها قبيلتان من العرب ترجعان إلى أصل يمني واحد، ولكنهما تختصمان دائما ويشتد التنافس بينهما أحيانا حتى يورطهما في حرب تتصل وقتا طويلا.
وهاتان القبيلتان هما الأوس والخزرج، وكانت كل قبيلة منهما تمضي أمورها على طريقة القبائل لا يفرق بينهما وبين أهل البادية إلا أنهما مستقرتان في مدينتهما لا تنتجعان الغيث وإنما تنتظرانه، ولا تتنقلان في التماس الكلأ. وكلتا القبيلتين كانتا تعيشان على الزراعة وعلى استثمار النخل خاصة.
ثم هناك فرق آخر بين يثرب من جهة وبين مكة والطائف من جهة أخرى، وهو أن يثرب لم تكن خالصة لأهلها من العرب، وإنما كان اليهود يشاركونهم فيها. وكانت المعاملات في الزراعة والتجارة تجري بين اليهود وبين هاتين القبيلتين بحكم الجوار والاشتراك في الأرض والمصالح على اختلافها، وكان لكل قبيلة من الأوس والخزرج حلفاؤها من اليهود يحاربون معها إن حاربت ويسالمون معها إن سالمت.
ومن أجل هذا كله كان الفرق عظيما بين أهل يثرب من العرب وأهل مكة والطائف، فأهل يثرب أصحاب زراعة متصلة يزرعون ليعيشوا ولا يكادون يتجرون خارج الجزيرة إلا قليلا، وهم بعد ذلك مخالطون لأهل الكتاب من اليهود مخالطة متصلة.
فلا غرابة في أن يؤثر هذا كله في أخلاقهم وفي طبائعهم فيجعلهم ألين عريكة وأرق شمائل وأسمح أخلاقا. ولكنهم على ذلك ظلوا كغيرهم من العرب مشركين يعبدون الأوثان ويؤمنون بكثير مما كان أهل البادية يؤمنون به من السخافات والخرافات، وظلوا كغيرهم من العرب يعظمون البيت الحرام بمكة ويمجدونه في الموسم مع غيرهم من الحجيج.
وكانوا في هذا العصر الذي نتحدث عنه قد بلغ منهم الجهد لكثرة الاختلاف بين القبيلتين وما كان ينشأ عن ذلك من الخصومات والحروب، ثم لأن اليهود على ما كان بينهم وبين القبيلتين من الجوار واشتراك المصالح كانوا يستظهرون على هؤلاء العرب الجهال الأميين، يستظهرون عليهم بما عندهم من كتاب، وبما لهم من دين مهما يكن أمره فقد كان أرقى من هذه الوثنية الغليظة التي كان العرب يدينون بها.
8
وليس غريبا - بعد هذا الذي عرض عليك في إيجاز من شئون الأمة العربية في وبرها ومدرها - أن تنشأ عن هذه الحياة التي كانوا يحيونها أخلاق غليظة كغلظ هذه الحياة، وعادات منكرة كنكر هذه الحياة أيضا، فهؤلاء الذين يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم، ويعبدون الأشجار التي لا يتحرجون من أن ينتفعوا بثمارها وغصونها إن احتاجوا إلى ذلك، لا ينتظر منهم أن تصفو طبائعهم وتمتاز أخلاقهم وتلين قلوبهم وتحسن شمائلهم، بل عكس هذا كله هو الذي ينتظر منهم.
فإذا أضفت إلى ذلك ما كانت البداوة تفرض على أهلها من الفقر والعوز وقسوة الحياة، وأن أهل القرى إنما هم قوم عاشوا بداة أولا ثم استقروا في قراهم بعد ذلك دون أن يضيعوا من خصائص البداوة إلا أقلها، فليس غريبا بعد هذا كله أن نعرف من عادات هؤلاء العرب ما نعرف من الغلظة والقسوة والجفاء، وليس غريبا أن نعرف أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر والإملاق، ويئدون بناتهم خشية الفقر والإملاق والعار أيضا. وليس غريبا أن نعرف أن العلاقة بين رجالهم ونسائهم لم تكن مهذبة ولا نقية ولا مبرأة مما يعاب، إلى غير ذلك من العادات الكثيرة التي غيرها الإسلام وحفظ الشعر منها شيئا غير قليل.
ومن الطبيعي أن أهل القرى كانوا أرق طباعا من أهل البادية إلى حد ما؛ فلسنا نعرف أن أهل مكة أو الطائف أو يثرب كانوا يقتلون أبناءهم أو يئدون بناتهم، حال بينهم وبين هذا ما أتيح لهم من لين العيش وسعة ذات اليد، ولكن أهل القرى كانوا قلة ضئيلة بالقياس إلى أهل البادية فلا ينبغي أن يتخذوا عنوانا لهم.
Unknown page