يقولون إنه شاعر ثم يستبين لهم أنه لا ينشدهم شعرا. ويقولون إنه كاهن ثم يتبين لهم أنه لا يسجع لهم سجع الكهان. ويقولون إنه ساحر ثم يستبين لهم أنه ليس من السحر في شيء. وإنما هو رجل مثلهم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يسعى في الأرض كما يسعون ويكسب قوته كما يكسبون أقواتهم، ويصارحهم بأنه لا يعلم من أمر الغيب إلا ما يعلمه الله حين يوحي إليه القرآن. فيريحون أنفسهم كما يريح الباحث المجد نفسه بعد الكد والعناء اللذين لا يغنيان عنه شيئا؛ فيقولون إنه مجنون. ولكن هذا لا يريحهم فهم يقولون له ويسمعون منه ويرقبونه مصبحين وممسين فلا ينكرون منه شيئا إلا هذا الكلام الذي يتلوه عليهم. فتخشع له قلوب فريق منهم ويعرض عنه أكثرهم، فلا يجدون لهم مخرجا إلا أن يجاهروه بالعداء وينصبوا له حربا منكرة. ولكن القرآن ينزل عليه وهو مضطر إلى أن يتلوه عليهم.
قد أعياهم أمره كل الإعياء؛ أرادوا أن يأخذوه باللين فلم يفلحوا، وأرادوا أن يأخذوه بالشدة فلم يفلحوا، وأكثر من هذا أنه يتلو عليهم من القرآن ما يتحداهم ويسألهم أن يأتوا بمثله، وهم يحاولون فلا يستطيعون، ولكنهم مصرون على العناد فيطالبونه بالآيات العظام، يسألونه أن يغني نفسه من فقر فينشئ لنفسه جنة من نخيل وعنب ويفجر فيها الأنهار والينابيع، ويسألونه أن يأتيهم بالله والملائكة، ويسألونه أن يسقط السماء عليهم كسفا، ويسألونه أن يرقى في السماء ويأتيهم منها بكتاب يقرءونه، ويسألونه أن يبتكر لنفسه بيتا من زخرف أو أن ينزل عليهم من السماء كنزا. فلا يسمعون منه إلا ردا واحدا وهو أنه لا يملك أن يأتيهم من هذه الآيات بشيء؛ لأنه بشر مثلهم لا يمتاز منهم إلا بأن الله اختصه برسالته وأرسله إلى الناس بشيرا ونذيرا.
فهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن لا سبيل إلى الجدال فيه؛ فقد جادل فيه العرب من قبل فلم يفلحوا ولم يبلغوا شيئا، وإذا عجز العرب الذين عاصروه عن أن يأتوا بقليل مثل ما جاء به فالذين جاءوا بعدهم أعجز وغيرهم من الأمم أشد عجزا.
ولكن للقرآن وجها آخر من وجوه الإعجاز لم يستطع العرب أن يحاكوه أيام النبي ولا بعده، ذلك هو نظم القرآن أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد الله أن تؤدى إلى الناس. لم يؤد إليهم هذه المعاني شعرا كما قدمنا ولم يؤدها إليهم نثرا أيضا، وإنما أداها على مذهب مقصور عليه وفي أسلوب خاص به لم يسبق إليه ولم يلحق فيه. ليس شعرا لأنه لا يتقيد بأوزان الشعر وقوافيه، وليس نثرا لأنه لا يطلق إطلاق النثر ولا يقيد بهذه القيود التي عرفها الكتاب في الإسلام، وإنما هو آيات مفصلة لها مزاجها الخاص في الاتصال والانفصال وفي الطول والقصر، وفيما يظهر من الائتلاف والاختلاف، تتلو بعض سوره فإذا أنت مضطر في تلاوتها إلى الأناة والتمهل؛ لأنها فصلت في ريث ومهل لأداء معان تحتاج إلى البسط والريث، كالتشريع مثلا ووصف ما كان يثار بين المسلمين والمشركين من الحروب والمواقع. وتتلو بعض سوره الأخرى فإذا أنت مضطر إلى شيء من السرع؛ لأنها تؤدي معاني يحتاج أداؤها إلى القوة والعنف، قد فصلت آياتها قصارا ملتئمة الفواصل تقرؤها فكأنك تنحدر من عل، وذلك حين يخوف الله عباده ويشتد في تخويفهم فيأخذهم من جميع أقطارهم ويقطع عليهم طريق الجدال والحجاج.
وربما يقص من أنباء الرسل فيمضي القصص في هدوء ومهل؛ لأنه يتجه إلى إثارة التفكير والاعتبار والتروية فيما جرى على الأمم من قبل والحذر من أن يجري عليهم مثله.
ثم يقص في سورة أخرى نفس الأنباء فتقصر الآيات وتسرع وتتسق الفواصل وتنسجم وتتكرر عبارات بعينها في آخر كل قصة؛ لأنه يتجه إلى الإرهاب والإثارة والإحاطة بالسامعين والقارئين وإعجالهم عن التفكر والتدبر، كأنما أخذتهم من كل مكان ريح عاصفة لا يجدون منها مهربا ولا يرون لأنفسهم عنها مصرفا؛ فهي تصب عليهم العبر والعظات والمثلات صبا، أو كأنهم يمطرون من السماء صخورا متتابعة فهم لا يملكون إلا أن يذعنوا لما يصب عليهم لا يجدون من الوقت ولا من القوة ما يتيح لهم رجع الجواب أو الجدال في بعض ما يصب عليهم. وإنما هي الآيات تتابع قصارا أشد القصر متسقة أروع الاتساق والعبر القاصمة تستنبط منها في سرع سريع أيضا. وهم لا يكادون يفرغون من قصة حتى تتبعها قصة أخرى، تأتي في إثرها في سرعة خاطفة وقوة مذهلة.
واقرأ إن شئت سورتين كسورة الشعراء وسورة القصص فستجد السرعة كل السرعة والقوة كل القوة في السورة الأولى، وستجد الأناة والمهل في السورة الثانية، ولكنك ستجد الروعة في السورتين جميعا، تروع أولاهما بما اختصت به من هذه السرعة وتروع الأخرى بما امتازت به من الأناة، وذلك في القرآن كثير.
وسواء قرأت السور السريعة أو السور المستأنية فسترى من جمال اللفظ وروعة الأسلوب واتساق النظام ما يسحرك ويبهرك ويملك عليك أمرك كله؛ فإذا أنت خاشع لما تسمع أو تقرأ معجب به مستزيد منه حتى حين يستأثر بك العناد وتتكلف ما تتكلف من إظهار الإصرار والاستكبار والإعراض والإباء.
وأخص مزايا القرآن أن الذين يقرءونه أو يسمعونه دون أن يؤمنوا به يكذبون على أنفسهم، فقلوبهم خاشعة وأذواقهم راضية وعقولهم هي المعارضة المكذبة؛ فهم حين يقرءونه أو يسمعونه يناقضون أنفسهم، يظهرون الإباء ويضمرون الاستجابة، قد اختلفت قلوبهم وألسنتهم ووجوههم؛ فقلوبهم تذعن وألسنتهم تنكر ووجوههم تعرض إلا أن يطبع الله على قلوبهم ويطمس على عقولهم ويجعل في آذانهم وقرا.
ووجه آخر من وجوه إعجاز القرآن وهو هذا الأثر الباقي الذي يتركه في قلوب الناس وعقولهم وأذواقهم على تتابع القرون واختلاف الأجيال.
Unknown page