وقد ظهرت نيات المنافقين كأبشع ما كانت حين هم النبي بغزوة تبوك، ووصف الله نياتهم هذه وقلوبهم وأعمالهم في روعة أي روعة، وتفصيل أي تفصيل، واشتد عليهم كل الشدة من أجل نياتهم وقلوبهم وأعمالهم في سورة التوبة.
وكانت غزوة تبوك مصدر محنة عامة للمنافقين جميعا، ولفريق من المؤمنين أيضا؛ ذلك أن النبي أخذ يتجهز لها في وقت لم يكن أشد على الناس فيه من ترك المدينة والمضي إلى الحرب وإلى الحرب في مكان بعيد.
كان ذلك في أشد الصيف حين يشتد القيظ على المقيمين فكيف بالمسافرين، وحين تنضج الثمار ويود الناس لو فرغوا لاجتنائها، وكان ذلك في وقت عسرة قل فيه المال واشتدت فيه الحاجة إليه. فهذه الحرب البعيدة التي لا تعرف عواقبها، والتي لا تحمل إلى قبيلة من قبائل الأعراب قريبا من المدينة وإنما تحمل إلى عرب الشام في حدود الجزيرة العربية.
كل هذا كان يحتاج إلى النفقة الكثيرة وكان يكلف المسلمين أن يجاهدوا بأنفسهم وأموالهم، وأن ينفقوا على هذه الحرب عن سعة، ومن أجل هذا دعي المسلمون إلى الإنفاق ودعوا إلى الجهاد بأنفسهم، فأما الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأجابوا إلى ما دعوا إليه، وأبلى عثمان في الإنفاق على هذه الحرب أحسن البلاء. وتجهز المؤمنون الصادقون للحرب وأعانوا من احتاج منهم إلى المعونة. وجاءت جماعة من المؤمنين إلى النبي متطوعين للجهاد ولكنهم لا يجدون النفقة، فأقبلوا يسألونه أن يحملهم وأجابهم النبي بأنه لا يجد ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون كما ذكر الله في سورة التوبة.
ومن أجل هذا كله شدد الله على المؤمنين في أن ينفروا مع النبي ولامهم فيما أظهر بعضهم من الفتور والتثاقل فقال:
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم * انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .
فإذا كان الجهاد قد ثقل على المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا دينهم لله، وآثروا رسول الله على أنفسهم فهو على المنافقين أشد ثقلا.
والمنافقون لا يجاهدون ابتغاء مرضاة الله؛ لأن قلوبهم لم تؤمن به، ولا يجاهدون إيثارا للنبي على أنفسهم؛ لأنهم لم يحبوا النبي ولم يخلصوا له، وإنما يجاهدون إن جاهدوا ابتغاء للغنيمة واتقاء لعاقبة القعود، ولذلك قال الله فيهم:
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون .
فهم إذن كارهون للخروج يؤثرون الراحة والأمن وإحراز أموالهم، وهم يحلفون للنبي والمؤمنين لو استطاعوا لخرجوا معهم، ولكن الله ينبئ نبيه بأنه يعلم أنهم كاذبون، وأنهم لو صح إيمانهم لم يستأذنوا. وقد أذن النبي لهم في القعود فعفا الله عنه وسأله في شيء من العتاب:
Unknown page