ثم قال - عز من قائل - يأمر نبيه بمباهلة الذين يجادلونه في ذلك ويصف طريق المباهلة:
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين .
ثم أمره أن يدعو أهل الكتاب من النصارى واليهود إلى كلمة سواء بين المسلمين وبينهم وهي ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وأمره إن أبوا أن يجيبوا إلى هذه الدعوة أن يشهدهم على أنه هو وأصحابه مسلمون قد أخلصوا دينهم لله وحده، وذلك حيث يقول:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
وكأن النصارى حاجوا النبي في إبراهيم كما كان اليهود يحاجونه فيه فقال الله:
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
ويقول الرواة: إن النصارى من أهل نجران نكلوا عن المباهلة التي دعاهم إليها النبي عن أمر الله وعادوا إلى بلادهم كما أقبلوا منها دون أن يعطوه الرضى من أنفسهم. ولم تكن بين النبي وبين النصارى في جزيرة العرب حرب، وإنما تسامع المسلمون العرب ذات يوم بأن نصارى العرب في مشارف الشام يتهيئون لغزو المسلمين في المدينة. يدل على ذلك ما تحدث به عمر - رحمه الله - حين اعتزل النبي نساءه، من أن صاحبا له من الأنصار جاءه بليل فطرق عليه الباب، فلما خرج إليه أنبأه الأنصاري بأن قد حدث شيء عظيم، قال عمر: أوجاء الغساني؟ وكانوا قد تسامعوا بأن غسان تتهيأ لغزوهم. قال الأنصاري: لا، بل حدث أعظم من ذلك، ثم مضى عمر في حديثه.
فهذا يدل على أن أهل الشام من نصارى العرب قد أكبروا ما بلغهم عن النبي وانتشار أمره في الجزيرة بالسلم حينا وبالحرب حينا آخر، فهموا بغزوه كراهية أن ينشأ في جزيرة العرب ملك منظم يصبح خطرا على حدود الإمبراطورية البيزنطية. وهذا في أكبر الظن هو الذي حمل النبي أن يرسل جيشا إلى «مؤتة» على حدود الشام والجزيرة العربية وهي الموقعة التي امتحن فيها المسلمون وقتل فيها ثلاثة من أصحاب اللواء. وكادت الكارثة أن تكون أخطر من ذلك لولا براعة خالد بن الوليد - رحمه الله - حين أخذ اللواء وانحاز بالمسلمين حتى أمنوا. وعسى أن يكون هذا أيضا وما انتهت إليه موقعة «مؤتة» هو الذي حمل النبي أن يغزو غزوة «تبوك» التي فصل الله ذكر ظروفها في سورة التوبة كما سترى.
17
وكان أمر النبي مع المنافقين معقدا أشد التعقيد؛ لأنه اتصل منذ هاجر النبي إلى المدينة إلى أن آثره الله بجواره، ولأن النبي والمسلمين لقوا منه شرا أي شر وبلاء أي بلاء.
Unknown page