وهذا الاختلاف بين الفرق الإسلامية يرجع قبل كل شيء إلى الفتنة التي سادت بقتل عثمان - رحمه الله - وبما كان من الحرب بين أصحاب النبي بعد مقتله. فالفرق الأولى التي نشأت عن هذه الفتنة اختصمت فيما بينها أشد الاختصام، حتى قالت الخوارج بكفر علي وأصحابه، وكفر معاوية وأصحابه. وقالت الشيعة بكفر معاوية ومن ناصره من أهل الشام. وجعلت هذه الفرق تتقاذف بالكفر، وأبى المعتزلة من أصحاب النبي، كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة أن يشاركوا في شيء من هذه الفتنة وأبوا كذلك أن يكفروا أحدا من المسلمين حتى كان بعضهم يقول: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف ينطق فيقول : هذا مؤمن وهذا كافر. وكره قوم هذا التقاذف بالكفر، والحكم فيما لا ينبغي أن يحكم فيه إلا الله وحده فوقفوا موقف الإرجاء، وتركوا أمر هؤلاء المختصمين إلى الله يقضي بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، فيحسن ثواب البر ويشدد عقاب الفاجر إن شاء أو يخففه أو يعفو عنه.
وتجاوزت المعتزلة التي نجمت فيما بعد ما ألف الصالحون من القصد فأغرقوا في تحكيم العقل فيما لا يستطيع العقل أن يحكم فيه. تكلموا أولا فيما تكلمت فيه الفرق القديمة من هذا التقاذف بالكفر، فاخترعوا المنزلة بين المنزلتين وقرروا أن مقترف الكبيرة ليس مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو فاسق خالف عن أمر الله فلم يعد مؤمنا، وأظهر الإسلام واعترف بوحدة الله وصدق نبيه فلم يصر إلى الكفر، ورتبوا على هذا المذهب أن مقترف الكبيرة لا تقبل شهادته في الدنيا وأنه مخلد في النار بعد الموت.
وبينما كان المسلمون يختصمون في هذه المسائل لقوا اليهود والنصارى وغيرهم من الفرس والهند، وجادلوهم في دياناتهم كما جادلهم أولئك في الإسلام، فعرفوا من مذاهبهم في الدفاع عن دياناتهم أشياء لم يكونوا يعرفونها، ثم لم يلبثوا أن عرفوا ألوانا من الثقافات الأجنبية، والثقافة اليونانية خاصة، والفلسفة اليونانية على وجه أخص. فتأثروا بهذا كله واتخذوه وسيلة إلى الدفاع عن دينهم كما فعل النصارى واليهود، ثم مضوا إلى أبعد من ذلك فآمنوا بالعقل وحكموه في كل شيء، وزعموا أنه وحده مصدر المعرفة، وأنه هو الذي يحسن ويقبح من أعمال الناس حسنها وقبيحها، وأنه يستطيع أن يعرف الله، وأن يعرفه بقوته، سواء جاءته الأنبياء الهداة إلى الله أو لم يجيئوا. وقد غرهم إيمانهم بالعقل فدفعهم إلى شطط بعيد، ولم يخطر لهم أن العقل الإنساني ملكة من ملكات الإنسان، وأن هذه الملكة كغيرها من ملكات الإنسان محدودة القوة، تستطيع أن تعرف أشياء وتقصر عن معرفة أشياء لم تهيأ لمعرفتها. وهذا هو الذي فتح عليهم أبواب هذا الاختلاف الذي لا ينقضي، وجعلهم فرقا نيفت على السبعين.
ثم لم يكفهم هذا كله فزعم الزاعمون منهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد نبأ بهذا الاختلاف، ونبأ بعدد الفرق التي ستنشأ في الإسلام، ونبأ بأن فرقة واحدة منها هي الناجية - في الحديث الذي رواه رواتهم - وأن سائرها هالك، وذلك كله في الحديث الذي رواه رواتهم، والذي أكاد أقطع بأنه اخترع بأخرة، مهما يكن السند أو الأسانيد التي ركبت له، هو قولهم عن النبي: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منهم واحدة والباقون هلكى. قيل: ومن الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة. قيل: ومن أهل السنة والجماعة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي.»
والشيء الذي لا شك فيه أن كثرة هذه الفرق، وما يضاف إليها من المقالات، إنما نشأت عما كان من التقاء الإسلام بالديانات والثقافات الأجنبية على اختلافها، ونحن نعلم كيف فتن كثير من المسلمين بالفلسفة اليونانية، وبما رأوه من أن فلاسفة اليونان قد استكشفوا ألوانا من المعرفة لم تكن تخطر للعرب على بال، في شئون الرياضة والطبيعة والطب. وهم قد رأوا فلاسفة اليونان قد تجاوزوا بعقولهم ما تستطيع أن تعلم إلى ما لا تستطيع أن تعلم، فبحثوا عن الله وعن صفاته وخصائصه، وذهبوا في ذلك مذاهبهم المعروفة، فما يمنع المفلسفين من المسلمين أن يذهبوا مذهب هؤلاء الفلاسفة من اليونان، وأن يحاولوا أن يستكشفوا بعقلهم الطبيعة، وما وراء الطبيعة، وما يمنع المتكلمين من أن يذهبوا مذهب الفلاسفة فيعملوا العقل فيما لا يحسن العقل أن يعمل فيه من البحث والنظر، ويتخذوا وسائل الفلسفة سبيلا إلى محاجة غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، فيعود عليهم هذا كله بالاختلاف فيما بينهم، كما اختلف غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى حين عرفوا الفلسفة وأقحموها في شئون الدين. وهذا هو الذي جعل المعتزلة مثلا يقرءون القرآن والسنة فيرون أن الله قد وصف نفسه بصفات فيبحثون عن هذه الصفات، ويأبون إلا أن يصلوا فيها إلى ما يرون أنه الحق، وهم قد قرءوا في القرآن أمر الله للناس أن يتفكروا ويتدبروا، ليعلموا أن هذا العالم بما فيه من العجائب والنظام الدقيق لا يمكن أن يوجد من غير موجد له، فظنوا أن العقل يستطيع أن يعرف كل شيء، وأن يعرف الله ذاته، وحقائق ما يصف به نفسه من الصفات. فتورطوا في أشياء أساغتها عقولهم ولا تستطيع عقولنا نحن أن تسيغها، ولسنا في حاجة إليها لنحسن الإيمان بالله والعلم بقدرته، وبما وصف نفسه به من الصفات؛ لأننا قد عرفنا أن العقل الإنساني ليس من القوة والنفوذ بحيث ظن فلاسفة اليونان ومن تبعهم من متفلسفي النصارى واليهود والمسلمين، وإنما هو كما يقول أبو نواس: قد حفظ شيئا وغابت عنه أشياء.
وانظر إلى رجل حكيم كأبي العلاء، كيف غره الإيمان بالعقل فظن أنه هو الإمام ولا إمام غيره، وأنه وحده يهدي الناس في المسير والإرساء، فقال في الرد على بعض غلاة الشيعة:
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
Unknown page