ثم جاء العرب ، رواد الأدب ، فأطربونا بكلام الحمام ، في الحب والغرام ، ونقلوا في الأمالي ، عتاب الطلل البالي ، وأتحفونا بحوار الأطيار ، وإظهار أسرار الديار ، حتى أسندوا الأخبار للأشجار .
فيا صاحب الدراية ، إن رأيت في هذه المقامات رواية ، فقد قصدت النفع ، ومن استطاع أن ينفع أخاه فليفعل ، وقد أحلتك على ما سلف ، ومن أحيل على مليء فليحتل.
وقد جانبت في هذه المقامات التجريح ، سواء بالتلميح أو بالتصريح ، ودبجتها بالثناء والمديح ، لأن القول اللين ، والخلق الهين ، يجلب الود ، ويزيل الصد ، وكسر القلوب غلط ، وجرح المخاطب شطط ، فهنا ملاينة لا مداهنة ، وليس الخبر كالمعاينة ، ومداراة لا مجاراة ، ولي في هذه المقامات رسائل ، ومن العلم مسائل .
وفيها عبر وسير ، وأشعار وأخبار ، وشجون وفنون ، وفكاهات وملاطفات ، ومشجيات ومبكيات ، ومحفوظات وعظات ، فلا تحكم بمقامة على كل المقامات ، بل طالع الجميع ليكون حكمك موات ، فإن الروض ألوان ، والشجر صنوان وغير صنوان ، والتنويع مدعاة لإثارة الذهن البارد ، ولن نصبر على طعام واحد .
وقد جانبت فيها الهمز ، والغمز واللمز ، فلا مصلحة لنا في التعرض للأشخاص والأجناس ، أو تتبع عثرات الناس ، بل نحن أحوج إلى جبر القلوب ، ودفن العيوب ، لأن مرد الكل إلى علام الغيوب . ومن وجد نقصا فليعف عنا ، ومن غشنا فليس منا .
خذها من القلب لو أن الدجى صبغت
ثيابه بسناها المشرق الغالي
لصار نورا كأن الشمس طلعته
Page 5