وبعد نحو مائة وثلاثين عاما من هذا، وقعوا مرة أخرى في نفس الخطأ. إن اللهفة المشتعلة في نفس اليهود لاتباع العادات الوثنية هي حقا أمر غير قابل للتفسير على الإطلاق؛ وما حدث هو أنهم عندما أمسكوا بابني صموئيل يرتكبان خطيئة إذ كانا منوطين ببعض الأمور الدنيوية، ذهبوا إلى صموئيل وحدثوه بغلظة وصخب فقالوا له: «ها أنت ذا قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك، فالآن اجعل لنا ملكا يقضي لنا كسائر الشعوب.» وهنا لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن دوافعهم كانت خبيثة، بمعنى أنهم يريدون أن يكونوا مثل الشعوب الأخرى، أي الوثنيين ، في حين أن مجدهم الحقيقي كان يكمن في مخالفة هؤلاء قدر المستطاع. يقول العهد القديم في الإصحاح الثامن من سفر صموئيل الأول: «فساء الأمر في عيني صموئيل إذ قالوا أعطنا ملكا يقضي لنا. وصلى صموئيل للرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم. حسب كل أعمالهم التي عملوا من يوم أصعدتهم من مصر إلى هذا اليوم وتركوني وعبدوا آلهة أخرى، هكذا هم عاملون بك أيضا. فالآن اسمع لصوتهم، ولكن أشهدن عليهم وأخبرهم بقضاء الملك الذي يملك عليهم.» والمقصود هنا ليس سلوك ملك معين، وإنما سلوك عامة ملوك الأرض، الذين تاق بنو إسرائيل بشدة ليكون لديهم واحد منهم كباقي الشعوب. وبالرغم من شدة تباعد الأزمنة واختلاف الأعراف والعادات، يظل الطابع نفسه سائدا. «فكلم صموئيل الشعب الذين طلبوا منه ملكا بجميع كلام الرب؛ وقال: هذا يكون قضاء الملك الذي يملك عليكم؛ يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه، لمراكبه وفرسانه، فيركضون أمام مراكبه» (يتفق هذا الوصف مع الأسلوب الحالي في إبهار الناس) «ويجعل لنفسه رؤساء ألوفا ورؤساء خماسين، فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده، ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه؛ ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات.» (وهذا وصف للبذخ والترف فضلا عن ظلم الملوك وجورهم). «ويأخذ من حقولكم وكرومكم وزيتونكم، أجودها ويعطيها لعبيده؛ ويعشر زروعكم وكرومكم، ويعطي لخصيانه وعبيده.» (وبهذا نرى أن الرشوة والفساد والمحسوبية هي الرذائل الخالدة للملوك). «ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله؛ ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيدا؛ فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم.» ويفسر هذا استمرار النظام الملكي؛ وشخصيات الملوك الصالحين القلائل الذين جاءوا منذ ذلك الوقت لا تطهر لقب الملك من الإثم ولا تمحو الخطيئة عن المصدر؛ فلم يكن الثناء الحسن الذي ناله النبي داوود موجها إليه «بصفته الرسمية كملك»، وإنما فقط بوصفه «رجلا» أخلص لله بقلبه. «فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل، وقالوا: لا بل يكون علينا ملك؛ فنكون نحن أيضا مثل سائر الشعوب، ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا.» وظل صموئيل يحاجهم ويجادلهم، لكن بلا طائل؛ وبين لهم جحودهم وكفرهم بنعمة الله عليهم، ولكن ما كان كل هذا ليفيد؛ ولما رأى عزمهم الكامل على المضي في حماقتهم، صاح قائلا: «فإني أدعو الرب فيعطي رعودا ومطرا» (وكان ذلك عقابا آنذاك إذ كان في وقت حصاد القمح) «فتعلمون وترون أنه عظيم شركم الذي عملتموه في عيني الرب بطلبكم لأنفسكم ملكا؛ فدعا صموئيل الرب فأعطى رعودا ومطرا في ذلك اليوم، وخاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدا. وقال جميع الشعب لصموئيل: صل عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت، لأننا قد أضفنا إلى جميع خطايانا شرا بطلبنا لأنفسنا ملكا.» وتلك الأجزاء من الكتاب المقدس صريحة ومباشرة وإيجابية. فهي لا تسمح بأدنى التباس أو شك. فإما أن يكون رب العالمين قد بين هنا صراحة رفضه للحكم الملكي؛ وإما أن يكون الكتاب المقدس كاذبا. ولدى المرء أسباب وجيهة للاعتقاد أن سياسة إدارة الملك تتدخل - بقدر ما تتدخل مكائد رجال الدين - لحجب الكتاب المقدس عن الجمهور في البلدان الكاثوليكية؛ فالملكية في حالات تلك البلدان هي بابوية الحكومة.
ولقد أضفنا إلى مصيبة الملكية مصيبة الخلافة الوراثية؛ وباعتبار الأولى مذلة وتحقيرا لأنفسنا، فإن الثانية - التي تطلب باعتبارها حقا مكتسبا - إهانة وعبء ثقيل نفرضه على الأجيال القادمة. فلما كان جميع البشر سواسية في الأساس، فمن غير الممكن أن يكون لأحد الحق في تنصيب أسرته في وضع دائم يميزهم على الآخرين جميعا إلى الأبد، ومع أن المرء قد يستحق لنفسه «قدرا» لائقا من الشرف والتكريم والتبجيل من معاصريه، فإن ذريته قد يكونون غير جديرين على الإطلاق بهذا الإرث. ويكمن أحد أقوى البراهين «الطبيعية» على حماقة الحق الوراثي للملوك في رفض الطبيعة نفسها له، وإلا لما حولته في كثير من الأحيان إلى مهزلة ساخرة بمنحنا «حمارا على أنه أسد».
ثانيا: لما لم يكن بمقدور أي إنسان أن يحظى في البداية بأي تكريم عام سوى ما يعطيه له الناس، فإن مانحي هذا التكريم لا يمكن بحال أن يمتلكوا سلطة التخلي عن حق الأجيال القادمة. ومع أنهم يمكن أن يقولوا: «لقد اخترناك لتسودنا»، فإنهم لا يستطيعون - دون أن يظلموا أبناءهم ظلما بينا - أن يقولوا: «وسوف يحكم أبناؤك وأبناء أبنائك أبناءنا إلى الأبد»، لأن مثل هذا الميثاق المخالف للحكمة والإنصاف والطبيعة قد يضعهم في الخلافة التالية تحت حكومة فاسد أو مخبول. ولطالما تعامل معظم الحكماء من الناس - من وجهات نظرهم الخاصة - مع الحق الوراثي بازدراء؛ غير أن هذا الحق هو أحد تلك الشرور التي تصعب جدا إزالتها حال إقامتها؛ فكثير من الناس يخضعون بسبب الخوف، وآخرون بسبب الخرافة، والقسم الأكثر قوة يشتركون مع الملك في نهب الباقين.
هذا على افتراض أن السلالة الحالية من الملوك في العالم كانت لهم أصول شريفة؛ فمن الجائز جدا أننا إذا استطعنا إزالة الغطاء المظلم عن العصور الغابرة وتعقب أصولهم حتى مصدرها، فسنجد أن أولهم لم يكن سوى زعيم بربري وحشي لعصابة مارقة اكتسب فيها بأخلاقه الوحشية أو تفوقه في المكر والدهاء لقب زعيم اللصوص؛ وعن طريق زيادة قوته وتوسيع أعمال السلب والنهب أرعب الهادئين العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم وأرغمهم على شراء أمنهم مقابل عطاءات متكررة يدفعونها قسرا. غير أن ناخبيه ما كانوا ليفكروا في منح ذريته حق الوراثة، لأن مثل هذا الإقصاء الدائم لأنفسهم يتعارض مع مبادئ الحرية والعفوية التي أعلنوا أنهم سيعيشون بها. لذا فإن الخلافة الوراثية في العصور الأولى للملكية لم يكن ممكنا أن تحدث باعتبارها حقا يطالب به، وإنما حدثت كأمر عابر أو مكمل؛ لكن لما كانت السجلات في تلك العصور قليلة أو معدومة، ولما كان التاريخ التقليدي مكتظا بالكذب والبهتان، كان من السهل جدا بعد انقضاء بضعة أجيال تلفيق قصة خرافية في زمن ملائم لإرغام العامة على ابتلاع فكرة الحق الوراثي. وربما أدت الاضطرابات المخيفة التي حدثت - أو بدا أنها ستحدث - عند موت الزعيم واختيار زعيم جديد (إذ لا يتصور أن الانتخابات بين البرابرة الوحشيين يمكن أن تكون منظمة أو خالية من الاضطرابات) إلى جعل كثيرين يفضلون ذرائع الوراثة في البداية؛ وهكذا حدث منذ ذلك الوقت أن ما تقبل في البداية باعتباره مناسبا فحسب أصبح فيما بعد يطالب به بوصفه حقا أصيلا.
لقد عرفت إنجلترا منذ الفتح النورماندي بعض الملوك الصالحين القلائل، ولكن هذه القلة تأن تحت وطأة عدد أكبر كثيرا من الملوك الفاسدين؛ غير أنه ما من إنسان عاقل يستطيع القول إن ادعاءه أنه من نسل ويليام الفاتح هو ادعاء مشرف. فنزول وغد فرنسي مع عصابة مسلحة من قطاع الطرق إلى الأرض الإنجليزية وإعلان نفسه ملكا على إنجلترا دون قبول من أهلها هو بصراحة تامة صنيع غير مسبوق في غاية الخسة والنذالة. وهو بكل تأكيد صنيع لا تقره السماء. غير أنه لا داعي لإضاعة الكثير من الوقت في فضح حماقة الحق الوراثي؛ ولو كان هناك أناس ضعفاء إلى حد الإيمان به فليتفضلوا إذن بتبجيل الحمار والأسد معا دون تمييز، وعلى الرحب والسعة. لكنني لن أحاكي ذلهم، ولن أعكر صفو إخلاصهم.
غير أنني أسعد بسؤالهم كيف جاء الملوك في البداية في اعتقادهم؟ وهذا السؤال لا يسمح إلا بثلاث إجابات وهي: عن طريق القرعة، أو الانتخاب، أو اغتصاب السلطة. ولو أن أول الملوك نصب بالقرعة لكانت تلك سابقة يختار على أساسها الملك التالي، وهو ما يستبعد احتمال الخلافة الوراثية. جاء شاءول (أول ملوك بني إسرائيل) بالقرعة، غير أن الخلافة لم تكن وراثية، ولا يبدو في الأمر أنه كانت هناك أي نية لأن تكون كذلك في أي وقت. ولو جاء أول الملوك في أي بلد عن طريق الانتخاب، فإن هذا أيضا يصنع سابقة لاختيار الملك التالي؛ لأن القول بسلب «حق» جميع الأجيال المقبلة من خلال فعلة الناخبين الأوائل - إذ لم يختاروا ملكا فحسب وإنما اختاروا أسرة من الملوك تحكمهم إلى الأبد - قول ليس له مثيل لا في الكتاب المقدس ولا في غيره، وإنما هو مذهب الخطيئة الأصلية، التي تفترض أن الإرادة الحرة لجميع البشر فقدت مع آدم، ونخلص من هذه المقارنة - التي لا بديل عنها - إلى أن الخلافة الوراثية لا يمكنها تحقيق أي مجد. ولما كان جميع البشر أخطئوا بخطيئة آدم، ولما كانوا خضعوا بخضوع الناخبين الأوائل، ولما كانوا مطيعين للشيطان في الأولى وخاضعين للسلطة في الثانية، ولما فقدنا براءتنا في الأولى وسيادتنا في الأخيرة، ولما كانت كلتاهما تعوقنا عن استعادة وضع وشرف سابقين، فإنه يترتب على ذلك حتما أن الخطيئة الأصلية والخلافة الوراثية صنوان متماثلان. إنها مرتبة مخزية! وعلاقة شائنة! غير أن أكثر السفسطائيين دهاء لا يستطيع تقديم مقارنة أكثر إنصافا.
وفيما يخص اغتصاب السلطة فلا أظن أن أحدا يمتلك من الوقاحة ما يكفي للدفاع عنها؛ أما كون ويليام الفاتح غاصبا للسلطة فتلك حقيقة لا مراء فيها. والحقيقة الصريحة هي أن الملكية الإنجليزية العريقة لن تصمد أمام الفحص والتدقيق.
ولكن ما يشغل البشرية ليس هو سخافة وعبثية الخلافة الوراثية بقدر ما هو شرها المستطير. فلو أن الخلافة الوراثية ضمنت لنا تقديم سلالة متصلة من العقلاء الحكماء لحملت خاتم السلطان الإلهي، ولكن بما أنها تفتح الباب أمام «السفهاء» و«الأشرار» و«الفاحشين»، فإنها تحمل في طياتها طبيعة الظلم والطغيان. إن الرجال الذين يعتبرون أنفسهم ولدوا ليحكموا ويتسلطوا ويعتبرون أن الآخرين ولدوا ليسمعوا لهم ويطيعوا سرعان ما يتحولون إلى جبارين؛ وتتسمم عقولهم مبكرا بداء العظمة باعتبارهم نخبة مختارة من بين بقية البشر، والعالم الذي يعيشون فيه يختلف جذريا عن العالم ككل، وهكذا لا تصبح لديهم فرصة لمعرفة الاهتمامات الحقيقية لهذا العالم، وعندما يخلفون آباءهم في الحكم غالبا ما يكونون هم الأكثر جهلا والأقل أهلية في جميع أنحاء مملكتهم.
وأحد الشرور الأخرى التي تلازم الخلافة الوراثية هو أن حدثا قاصرا في أي سن يمكن أن يجلس على العرش؛ وطوال الوقت حتى سن البلوغ تتاح لمجلس الوصاية الذي يعمل تحت مظلة الملك كل الفرص والدوافع لخيانة ثقته. ونفس المأساة الوطنية تحدث عندما يقع ملك عجوز فريسة الشيخوخة والضعف والعجز ويدخل آخر مراحل الضعف الإنساني. وفي كلتا الحالتين يصبح الشعب فريسة لكل وغد لئيم يستطيع التلاعب جيدا بحماقات الشيخوخة أو الطفولة.
لقد كانت الحجة الأكثر قبولا على الإطلاق التي عرضت تأييدا للخلافة الوراثية هي أنها تحفظ الأمم من الحروب الأهلية؛ ولو كان هذا صحيحا لكان أمرا جللا؛ حيث إن تلك أكثر الأكاذيب التي فرضت على الجنس البشري وقاحة على الإطلاق. فتاريخ إنجلترا بأكمله ينكر هذا القول. لقد حكم ثلاثون ملكا واثنان من القصر تلك المملكة الحائرة منذ الفتح النورماندي، وخلال ذلك الوقت كان هناك ما لا يقل عن ثماني حروب أهلية (من بينها الثورة) فضلا عن تسع عشرة حركة تمرد. لذا فإن الخلافة الوراثية تعمل ضد السلام بدلا من أن تحققه، وبذلك تدمر الأساس ذاته الذي تستند إليه.
Unknown page