Determinism
ليجسد الصرامة العلمية السببية، فيعني عمومية قوانين الطبيعة وثبوتها واطرادها، فلا تخلف ولا مصادفة ولا استثناء، كل حدث يحدث كان لا بد وأن يحدث بالضرورة، طالما أنه محكوم بالسببية الشاملة ويكشف عن اطراد عام.
يسهل إدراك أن المبادئ الثلاث وجوه لعملة واحدة، طالما أن السببية هي اطراد التعاقب في الطبيعة، والاطراد بدوره شاهد على السببية، وقد انتظما معا في إطار مبدأ الحتمية الكونية الشاملة ، الذي رسخته فيزياء نيوتن حين قدمت تفسيرها الميكانيكي للكون. الحتمية لا تعدو أن تكون الإقرار بأن السببية الشاملة، تجعل كل حدث يحدث كان لا بد حدوثه ويستحيل أن يحدث سواه، والقانون العلمي يتنبأ يقينا بالأحداث على أساس من السببية الشاملة، بحيث إذا توصلنا إلى نسق العلم الشامل، تبدت أمامنا أحداث الكون جميعها كتابا مفتوحا.
وراح فلاسفة العلم آنذاك يتبارون في تحديد خطوات المنهج الاستقرائي، وترتيبها ترتيبا تصاعديا وصولا إلى الكشف أو النظرية العلمية. وأهم ما في هذا الترتيب أن الخطوة الأولى هي الملاحظة التجريبية؛ فلا بد أن يبدأ العالم بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة، ملاحظة خالصة بلا أية موجهات، وكأن العالم يرقب من وراء ستار بحياد تام. الملاحظة العلمية دقيقة مقصودة منتقاة وهادفة، مرتبة ومتواترة، تتصف بالنزاهة والموضوعية، وأيضا الدقة التي توجب استخدام الأجهزة المعملية إلى أقصى حد ممكن وصولا لتكميم دقيق. وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها. وهناك علوم تعتمد على الملاحظة فقط كالفلك والجيولوجيا، وعلوم تعتمد على التجربة فقط كالفيزياء والكيمياء، وعلوم تجمع بين الاثنتين كعلوم الطب والحياة. والخطوة الثانية هي التعميم الاستقرائي للوقائع، التي لوحظت في صيغة قانون عام، وقد تتلوها خطوة افتراض فرض يعلل أو يفسر هذا التعميم. الخطوة الرابعة هي التحقق من صحة الفرض منطقيا، وأنه قادر على حل المشكلة المطروحة للبحث ومتسق مع ذاته، ومع القوانين العلمية الأخرى المعمول بها، ثم اختباره تجريبيا. ويكون قبول الفرض أو تعديله، أو رفضه والبحث عن فرض آخر إذا تم دحضه، كل هذا وفقا لنتائج محكمة التجريب، ليتم بلوغ معرفة جديدة والإضافة إلى بنيان العلم.
هذا هو ما يعرف بالاستقراء التقليدي أو الصورة الكلاسيكية البائدة للمنهج العلمي. ولئن كان العلم التجريبي تجسيدا وتجريدا لمقولة التقدم في حياة البشر، فلا غرو أن تشهد نظريته المنهجية بدورها تقدما أو تطورا جذريا، فكيف سار الأمر؟
الفصل الخامس
تطور نظرية المنهج العلمي
(1) مشكلة الاستقراء
ترسخت رؤية المنهج العلمي التي تعتبر النظرية العلمية في جوهرها تعميمات استقرائية، لا سيما وأن هذا كان ملائما تماما لفيزياء نيوتن الكلاسيكية، وهي لم تقتحم بعد عالم الذرة وما دون الذرة، وتتعامل مع كون كل شيء فيه تقريبا قابلا للملاحظة الحسية. كانت الفيزياء النيوتونية التي تحكم قوانين الحركة في الزمان والمكان، هي النظرية الفيزيائية العامة التي ترسم معالم نسق العلم وتحدد مثالياته ومعاييره، وكانت النيوتونية تسير قدما من نجاح إلى نجاح أعظم، وأثبتت ذاتها بوصفها المثال المعرفي المنشود، وتبارت العلوم المختلفة في احتذاء حذوها، وقد سلم الجميع بأن منهجها الاستقرائي، هو المنهج العلمي المشهود.
ولكن في أوج العلم الكلاسيكي ونجاح فيزياء نيوتن، وفي أوان صعودها عرش المعرفة بثقة واقتدار، المعرفة النظرية والتطبيقية أيضا التي جعلت الثورة الصناعية على الأبواب، في قلب هذا المعمعان الظافر الرافع للواء الاستقراء بوصفه المنهج العلمي المعلى، حدث أن أثيرت مشكلة الاستقراء أشهر مشكلات الفلسفة ومناهج البحث.
Unknown page