الميثودولوجيا؛ أي مناهج البحث العلمي، تبلور الخلاصة المستصفاة من الملحمة الباهرة المتصاعدة، التي أحرزها العلم التجريبي الحديث، كنجاح متوال وصيرورة دائمة. تعود صياغة مصطلح «الميثودولوجيا
Methodology »، إلى شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط
I. Kant (1724-1804م)، وكتابه العمدة «نقد العقل الخالص» (1781م)، حيث ميز كانط بين المنطق العام، الذي يبحث في المبادئ العامة وشروط المعرفة الصحيحة، وبين المنطق العملي الذي قصد به علم المناهج وهو «الميثودولوجيا» ... المناهج الممكنة التي تنظم العلوم العملية، والتي يتكون عن طريقها أي علم.
1
من هنا أصبح موضوع الميثودولوجيا هو المنهج العلمي؛ طريقة اكتساب المعرفة العلمية بالعالم الذي نحيا فيه. وقبل أن ينتصف القرن العشرون أصبح المنهج العلمي هو المبادئ، التي نجردها من الممارسات الفعلية للعلماء في محاولاتهم الناجحة، لاكتساب المعرفة العلمية والإضافة إليها، و«هذا التجريد ليس مجرد توصيف لما يفعله العلماء أو لسلوك العلماء، بل يتضمن تقويما للمغزى الذي يدل عليه هذا السلوك».
2
واستخلاص دلالاته، من دون أن يعني هذا التقويم معيارا صوريا، يفرض على العلماء فرضا، بعبارة أخرى: النظرية الفلسفية الميثودولوجية؛ أي نظرية المنهج العلمي، لا هي وصفية خالصة ولا هي معيارية خالصة، بل مركب جدلي من الوصفية والمعيارية، لا تنقل خطوات البحث العلمي أو مراحله، بقدر ما تنقل روحه ومعالمه وخصائصه وطبائعه ومحكاته. •••
وبهذه النظرة الرحيبة المستوعبة يبرز السؤال: هل هناك منهج علمي شامل لكل فروع العلم، أم أن ثمة مناهج عديدة بتعدد فروع العلم، ونوعيات الظواهر التي يبحثها؟ بعبارة أخرى منهج العلم واحد أم كثير؟
حين أجابت فلسفة المنهج العلمي أو الميثودولوجيا عن هذا السؤال، تقدمت طبعا بإجابة فلسفية، والفلسفة تنزع للوقوف على الوحدة من وراء التنوع، واستكناه الكل في واحد، فكان المنهج العلمي الذي تنزع الفلسفة - أو الميثودولوجيا - إلى بلورته وصياغته هو منهج واحد. أجل، تختلف العلوم في موضوعاتها وطبيعة الظواهر التي تدرسها، وبالتالي تختلف أيضا في طرائقها إن قليلا وإن كثيرا؛ لأن طريقة البحث لا بد أن تتكيف مع موضوع البحث، لكنها مع هذا الاختلاف تلتقي في أسس عامة، يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة باختلاف فروع العلم العديدة، لتكون أسسا منطبقة ، لا على الفيزياء دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل أسسا منطبقة على كل بحث يستحق أن يسمى علما. وعلم مناهج البحث هو علم طبائع وقواعد أي بحث علمي، من حيث هو علمي. من هذا المنطلق نجد المنهج العلمي واحدا، ولكنه أيضا كثير! إنه واحد على مستوى النظر الفلسفي، وكثير متعدد على مستوى التطبيقات العينية.
العالم التجريبي للبكتريا - مثلا - مختلف عن العالم التجريبي لحركة الكواكب، وغير العالم التجريبي للظاهرة الاجتماعية ... إلخ، فلا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الإمبيريقية من علم إلى علم، تبعا لاختلاف طبيعة مادة البحث في هذا العلم أو ذاك، بل إن المناهج تختلف داخل العلم الواحد تبعا لزوايا ومستويات تناوله لموضوعه، وأيضا تبعا لدرجة تقدمه؛ فإمبيريقيات أي إجراءات قياسية لمجال معين الآن، تختلف كثيرا عن تلك التي كانت في أواسط القرن العشرين للمجال نفسه، وتختلف تماما عن تلك التي كانت في القرن التاسع عشر أو الثامن عشر.
Unknown page