Madkhal Ila Cilaj Nafsi

Cadil Mustafa d. 1450 AH
85

Madkhal Ila Cilaj Nafsi

مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي

Genres

كان لدى ديفيد حس أخلاقي عال كفيل أن يعذبه بقية عمره بهذا السؤال. وكان لا بد لهذا السؤال أن يطرح أثناء العلاج ويمحص. ومن ثم كان لا بد للمعالج أن يواجه ديفيد صراحة بموضوع المسئولية الأخلاقية أثناء عملية صنع القرار. كانت أفضل طريقة للتعامل مع هذا الكرب التوقعي هي ألا يدخر ديفيد وسعا في محاولة تحسين أوضاعه الزوجية، وبالتالي إنقاذ زواجه.

التحم المفهوم الوجودي للمسئولية بعملية إنقاذ الزواج هذه. وبدأ المعالج يمحص مدى مسئولية ديفيد عن فشل الزواج. فإلى أي حد كان ديفيد مسئولا عن حياة زوجته وشكل وجودها معه؟ لم يكن خافيا على المعالج ما يتمتع به ديفيد من بديهة حاضرة وخاطر سريع رشيق. بل لعل المعالج نفسه كان يحس بشيء من التهيب إزاء عقل ديفيد، وبشيء من الخشية من أن ينتقده ديفيد أو يدينه. فإلى أي حد كان ديفيد انتقاديا مدينا؟ أليس من المحتمل أن هذا الرجل هو الذي سحق زوجته وأخمد جذوتها؟ وأنه كان بإمكانه أن يساعدها على أن تزيد حصيلتها من المرونة والتلقائية والوعي بالذات؟

قام المعالج أيضا بمساعدة ديفيد على استقصاء مسألة أخرى على جانب عظيم من الأهمية: هل كان زواج ديفيد مجرد رمز لشيء آخر هو هو مصدر الكرب في حياته؟ هل كان يعلق على شماعة الزواج خيبات تنتمي إلى بقاع أخرى من حياته؟ ما إن بدأ ديفيد يبحث هذه المسألة حتى قاده البحث إلى قلب الديناميات الأزلية لأزمة منتصف العمر. فقد روى ديفيد حلما مهد الطريق إلى بعض الديناميات الهامة: «كان لدي مشكلة بخصوص تميع الأرض بالقرب من حمام السباحة عندي. جون (صديق كان يشارف الموت بالسرطان) يغوص في الأرض. كأنما هي رمال متحركة. أخذت أثقب أسفل الرمال المتحركة بحفار ضخم. كنت أتوقع أن أجد نوعا من الفراغ تحت الأرض، ولكن بدلا من ذلك وجدت لوحا من الأسمنت على بعد خمسة إلى ستة أقدام إلى أسفل. وجدت على اللوح إيصالا نقديا بموجبه دفع لي أحد الأشخاص مبلغ 501 دولار. كنت في الحلم قلقا جدا من أمر هذا الإيصال، لأن المبلغ كان أكبر بكثير مما يحق أن يكون.»

من أهم الموضوعات التي يدور حولها هذا الحلم موضوع الموت والشيخوخة . فهناك أولا مسألة هذا الصديق المصاب بالسرطان. حاول ديفيد أن يعثر على صديقه باستخدام مثقاب ضخم. أحس ديفيد في الحلم شعورا بالتحكم والقوة أثناء عملية الحفر. بدا واضحا أن الحفار رمز قضيبي، وأتاح ذلك استقصاء مفيدا للجانب الجنسي؛ كان ديفيد دائما مدفوعا جنسيا، وقد أوضح الحلم كيف أنه كان يستخدم الجنس (وبخاصة مع امرأة شابة) كوسيلة يتغلب بها على الشيخوخة والموت. وأخيرا يفاجأ باللوح الأسمنتي (الذي يثير تداعيات المشرحة والقبور وأحجار القبور).

وقد أدهشته الصور الرقمية في الحلم؛ فاللوح كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال كان بخمسمائة وواحد دولار بالضبط. وقد قدم ديفيد في تداعياته ملاحظة مثيرة؛ هي أن عمره خمسون عاما، وأن ليلة الحلم كانت ليلة ميلاده الحادي والخمسين. ورغم أنه لم يكن مشغولا بعمره على مستوى الشعور، فقد كشف الحلم أنه كان مهموما على مستوى اللاشعور بكونه قد تجاوز الخمسين. فإلى جانب اللوح الذي كان على عمق خمسة إلى ستة أقدام، والإيصال الذي تجاوز الخمسمائة دولار توا، كان هناك أيضا قلقه البالغ في الحلم من ضخامة المبلغ الذي يحمله الإيصال. لقد كان ديفيد ينكر علو سنه على مستوى الشعور. وكان موقفه الغالب هو أنه ينمو ويتوسع بسرعة كبيرة، وأنه أوفر صحة من أي وقت مضى، وأنه جعل حديثا يجري عشرة أميال كل يوم. أما عن مسيرته المهنية فقد كان يعتبر نفسه في مرحلة نمو سريع، وأنه مشرف على تحقيق كشف علمي اختراقي كبير.

فإذا كانت أزمة ديفيد الكبرى نابعة من وعيه المتنامي بشيخوخته واضمحلاله، إذن يكون تعجيله بالانفصال عن زوجته بمثابة رمية خاطئة، أو محاولة لحل مشكلة غير المشكلة الحقيقية. هذا ما جعل المعالج يدفع ديفيد إلى استقصاء دقيق لمشاعره تجاه شيخوخته وفنائه. فلم يكن بد من الإحاطة التامة بهذه الأمور قبل أن يكون بوسعه تقدير الحجم الفعلي لمصاعبه الزوجية. وقد قام المعالج والمريض باستقصاء هذه المسائل شهورا عديدة، حاول ديفيد خلالها أن يكون أكثر صدقا وإخلاصا من ذي قبل في معاملة زوجته، كما استعان هو وزوجته بمعالج زواجي لعدة أشهر.

بعد أن اتخذ ديفيد هذه الخطوات واستنفد هذه الوسائل، قرر هو وزوجته أن لا سبيل إلى إنقاذ الزواج، فانفصلا بالفعل. كانت الأشهر التي أعقبت الانفصال شديدة الصعوبة. وقد أمده المعالج بالطبع بالمساندة اللازمة خلال هذه المدة، ولكنه لم يحاول أن يحمل ديفيد على إزالة قلقه، بل حاول بالأحرى أن يساعده على أن يوظف القلق بشكل بناء. كان ديفيد أميل إلى التعجيل بزواج ثان، بينما ظل المعالج مصرا على أن يتريث ديفيد وينظر بعين الاعتبار إلى مسألة خوفه من العزلة، ذلك الخوف الذي كان يرده إلى زوجته عقب كل انفصال سابق. أصبح يتعين على ديفيد الآن أن يتثبت من أن الخوف ليس هو دافعه إلى التعجيل بزواج ثان.

كان صعبا على ديفيد أن يأبه بهذه النصيحة. فقد كان يحس بعاطفة حب جارفة تجاه المرأة الجديدة في حياته. إن حالة كون الإنسان «في حب» هي إحدى الخبرات العظيمة في الحياة، غير أنها في الموقف العلاجي تطرح مشكلات كثيرة. فكثيرا ما يكون الانجذاب للحب الرومانسي من القوة بحيث يكتسح أمامه أشد الجهود العلاجية وأكثرها هديا وحصافة. لقد وجد ديفيد أن رفيقته الجديدة امرأة مثالية، وأن ليس له امرأة سواها. وكان يحاول جهده أن يقضي معها كل وقته. فقد كان في وجودها يحس بحالة من النعمة الموصولة، تتلاشى فيها كل جوانب «الأنا» المنعزلة ولا تبقى إلا حالة مباركة من «النحن».

أما الشيء الذي حمل ديفيد في النهاية على أن يجد في العلاج، فهو أن صاحبته الجديدة بدأت تتخوف بعض الشيء من عنف ضمته، عندئذ فقط بدأ ديفيد يلتفت إلى خوفه البالغ من الوحدة ورغبته الانعكاسية في الاتحاد بامرأة. وشرع في برنامج لخفض الحساسية للوحدة، فكان يراقب مشاعره ويدونها في مفكرة يومية ويتناولها في جلسات العلاج بجد ومثابرة. دون ديفيد مثلا أن أيام الأحد كانت أصعب الأيام على الإطلاق. كان جدول ديفيد المهني مزدحما لأقصى درجة، فلم يكن لديه أية مصاعب طوال الأسبوع. أما عطلة الأحد فكانت يوم الفزع الأكبر . لقد بدأ يعي أن جزءا من هذا القلق كان مرده أن عليه يوم الأحد أن يرعى نفسه ويعتني بشئونه. فإذا أراد أن يفعل شيئا فعليه هو أن يجدول هذا النشاط. فهو لم يعد الآن يتكئ إلى ما كانت تعمله له زوجته. اكتشف ديفيد أن من أهم وظائف الطقوس في الثقافات المختلفة والجدولة المزدحمة في حياته الخاصة هو إخفاء الفراغ والخواء، وانعدام أي بنية أو نظام أو أرضية من تحت المرء.

4

Unknown page