Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Genres
وهو يحكي حكاية لا يثقل بها على أحد
من أولئك الهاجعين في أرض النعاس
يهدهدهم صوت المغني الذي يجثم على الأنفاس
في يوم أجوف مسلوب الإحساس.
إن سحر «أخبار من لا مكان» لا يكمن في الحجج المقنعة التي يقدمها سكان اليوتوبيين ليوضحوا سبب اختيارهم لأسلوبهم في الحياة، بقدر ما يكمن في جو الجمال والحرية، والهدوء والسعادة التي تسود القصة بأكملها. ولم يغفل موريس أي شيء يمكن أن يشدنا ويجذب حواسنا؛ فالنساء تتمتع بالصحة والنشاط والجمال، ويرتدين ملابس فاتنة من الحرير أو الكتان المطرز، والرجال وسيمون، لطيفو المعشر، بارعون في الغزل، وكل إنسان يبدو أصغر من عمره الحقيقي، ولا توجد تجعيدة واحدة على وجوه النساء اللائي بلغن الأربعين، وفي قاعات الطعام المشتركة التي لا نحتاج إلى القول بأنها مزينة بأعمال الحفر والصور وقطع الأثاث الجميلة ذات الزخارف البديعة، تقدم وجبات جاهزة وبسيطة ولكنها شهية الطعم مع زجاجة من النبيذ الفرنسي، كما أننا ننعم في أثناء فترة وجودنا في إنجلترا اليوتوبية (وهنا نشعر بحق أن موريس يخدعنا) بجو صحو ودافئ بشكل بديع.
وهذه مقتطفات قليلة نقدمها من «أخبار من لا مكان»، وهي لا تستطيع أن تعطينا إلا فكرة غير وافية عن الكتاب، إذ لا غنى عن تذوقه كما نتذوق اللوحة الفنية في مجموعها الكلي:
بعد أن قضى «وليم جست» في مقر الجماعة الاشتراكية ليلة تناقش فيها مع بعض رفاقه حول ما عسى أن يحدث بعد الثورة، رجع إلى منزله في «هامرسميث» وهو يحلم بأيام السلام والاستقرار، والنظافة والمودة المبهجة. ويستيقظ من نومه أو يحلم أنه يستيقظ بعد مرور مائتي عام ليرى على ضفتي «التيمز» صفوفا من البيوت الجميلة والحدائق المزدهرة بالورد. وسوف نتابعه في رحلته الأولى التي يطوف فيها أرجاء لندن في صحبة ديك هاموند
Dick Hammaond
وهو مراكبي وسيم دمث الخلق يتولى مهمة إرشاده، ويحمله معه في عربة جميلة ولطيفة يجرها حصان رمادي قوي عبر شوارع لندن الجديدة التي لم تعد تشبه لندن القديمة إلا شبها قليلا. فقد أصبحت تجمعا ضخما من القرى المتفرقة التي تفصل بينها الغابات والبراري والحدائق، وحلت الأكواخ والمباني الجميلة محل المنازل القبيحة المتسخة بالسناج. «تحولنا عن النهر في الحال، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في الطريق الرئيسي الذي يخترق هامرسميث. ولو لم تبدأ رحلتنا من الطريق المحاذي للنهر، لما استطعت أن أكون فكرة عن الوضع الذي كنا فيه، ذلك لأن «شارع الملك» كان قد اختفى، وأخذ الطريق السريع يمر بنا خلال مروج مشمسة واسعة وحقول تبدو كالحدائق. أما النهر الصغير الذي عبرناه على الفور فقد تم تطهير مجراه القذر، واستطعنا ونحن نعبر جسره الأنيق أن نرى مياهه الصافية، التي فاضت قليلا بتأثير المد والجزر، وتغطيها القوارب المرحة من مختلف الأحجام. وكانت هناك منازل كثيرة حوله، بعضها على الطريق، وبعضها الآخر وسط الحقول وتؤدي إليها ممرات لطيفة، كما تحوط كلا منها حديقة غناء. وكانت جميع المنازل بديعة التصميم، راسخة البنيان كما هو متوقع، وإن كان منظرها يوحي بأنها ريفية وأشبه بمساكن المزارعين، وكان بعضها مبنيا بالقرميد الأحمر مثل المنازل التي مررنا بها على ضفة النهر، مع كميات من الخشب والجص، ولذلك بدت بحكم بنائه والمواد الخام المستخدمة فيها مثل منازل العصور الوسطى، حتى لقد أحسست بأنني أعيش في القرن الرابع عشر، وزاد من قوة هذا الإحساس ملابس الناس الذين قابلناهم أو مررنا بهم، إذ لم ألاحظ فيها أي شيء «حديث». كان معظم الناس يرتدون ثيابا مرحة زاهية، لا سيما النساء اللاتي كن من الحلاوة والنضارة بحيث لم أستطع أن أمسك لساني عن جذب انتباه رفيقي إلى هذه الحقيقة. وقد لاحظت أن بعض الوجوه يبدو عليها الهم، ولكنني لاحظت كذلك أن ملامحها تكتسي بتعبير غاية في النبل، وأنه ليس فيها وجه يبدو على قسماته ظل واحد من ظلال التعاسة، بل إن معظم الناس (وقد قابلنا أعدادا كبيرة منهم) كانوا مرحين مرحا واضحا وصريحا.
تصورت أنني أعرف الطريق الرئيسي عن طريق التقاطع الذي كان لا يزال في مكانه. وأبصرت على الجانب الشمالي منه صفا من المباني والمحاكم المنخفضة، ولكنها كانت مبنية بناء أنيقا عامرا بالزخارف، بحيث تمثل لي التباين الشديد بينها وبين المنازل البسيطة المحيطة بها، بينما ارتفع فوق هذا المبنى المنخفض سطح عال مغطى بصفائح الرصاص، وظهرت النتوءات والجزء الأعلى من جدار قاعة كبيرة، ذات طراز معماري شديد الضخامة والفخامة، بحيث يمكنني القول بأنها بدت وكأنها تجمعت أبدع مزايا الفن القوطي في شمال أوروبا مع الطراز المعماري العربي والبيزنطي، على الرغم من أنني لم ألاحظ أي نسخ أو تقليد لأي طراز من هذه الطرز. وعلى الجانب الآخر، وهو الجانب الجنوبي للطريق، رأيت مبنى مثمن الأضلاع له سقف عال، ولا يختلف كثيرا عن مبنى المعمودية في فلورنسا، باستثناء أنه كان محاطا برواق أو أديرة ملتصقة به، وقد كان أيضا من أجمل المباني المزينة بالزخارف الرقيقة.
Unknown page