Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Genres
ولا ينبغي أن يسمح للعلاقات بين الرجال والنساء أن تخل بحياة المجتمع. والواقع أن أفلاطون لا يعترف إلا بالحب بين أشخاص من نفس الجنس، ولكنه يشترط حتى في هذه الحالة أن يخلو الحب من العواطف المشبوبة: «إن الحب الصادق هو أن تحب بروح معتدلة ومتناغمة كل ما هو متسق وجميل.» ويقول سقراط لجلوكون: «وفي المدينة التي نقوم بتأسيسها، سوف نضع قانونا يمكن بمقتضاه أن يقبل المحب حبيبه، وأن يصاحبه ويعانقه كما لو كان ابنه، وذلك - إذا كان مقتنعا به - حبا في الجمال، ولكن علاقاته بالشخص الذي يتعلق به ستتوخى في جميع الأمور الأخرى ألا تثير شبهة تجاوز هذه الحدود. وإذا تصرف بصورة مخالفة، فسوف يجر على نفسه الاتهام بالذوق السيئ والسوقية.»
وهكذا تقوم الحكومة في دولة أفلاطون المثالية على عاتق طبقة من ذوي المواهب العالية من الرجال والنساء الذين تخلوا عن الملكية والامتيازات المادية، وأقبلوا على الزواج والإنجاب بما يتفق مع مصلحة الدولة، واحتقروا العواطف والمشاعر الأنانية. ولكن هناك بين الحراس أنفسهم من هم أصلح للحكم من غيرهم. فالذين تغلب عليهم الطبيعة الفلسفية سيصبحون حكاما، بينما يصبح الأقل منهم ذكاء والأكثر ميلا للرياضة العنيفة مساعدين أو جنودا، ويشكلون جيشا نظاميا محترفا: - وهكذا يتعين علينا، يا صديقي، أن نوسع نطاق الدولة إلى حد بعيد، بإضافة جيش كامل يخرج لملاقاة الأعداء ويذود عن ممتلكات الدولة ضد كل معتد، ويستولي على ما يمتلكه الأعداء. - ولم ذلك؟ ألا يستطيع المواطنون أن يتولوا ذلك بأنفسهم؟ - كلا، وذلك إذا ما كان المبدأ الذي اتفقنا عليه حين أسسنا الدولة صحيحا. فلعلك تذكر أننا اتفقنا على أنه من المحال على فرد واحد أن يجيد عدة حرف في آن واحد. - هذا صحيح. - ولكن أليست الحرب فنا وحرفة؟ - بلى. - وهي فن يتطلب من الانتباه ما تتطلبه حرفة الحذاء على الأقل؟ - بلا شك. - غير أننا لم نسمح للحذاء بأن يكون زارعا أو نساجا أو بناء، وإنما جعلناه يقتصر على صنع الأحذية كيما يتقن صنعته. كذلك جعلنا لكل صانع آخر حرفة واحدة، وهي التي أتقنها ومارسها طوال حياته، فاستبعدنا عنه كل حرفة أخرى، بحيث إنه لم يعد يدخر وسعا للوصول في حرفته إلى حد الكمال. فإن كان الأمر كذلك، ألا ترى أن من أعظم الأمور أهمية أن تمارس الحرب كما ينبغي؟ وهل تظن أن من السهل ممارسة هذه المهنة، بحيث يستطيع الزارع أو الحذاء أو أي صانع آخر أن يكون محاربا في نفس الوقت، على حين أن المرء لا يجيد لعبة النرد إلا إذا تدرب عليها منذ طفولته، ولم يقتصر على اللعب في أوقات فراغه؟ وهل يكفي أن يتناول المرء رمحا أو أي سلاح آخر، كيما يصبح في الحال جنديا مدربا في أي فرع من فروع الجيش، بينما نحن نعلم عن يقين أننا مهما تناولنا من أدوات في أي فن آخر، فلن نصبح صناعا أو رياضيين؛ إذ إن الأداة لن تجدي شيئا لمن لم يكتسب معرفة بكل فن ولم يتلق التدريب الضروري فيه.
10
وهناك فقرة في بداية «الجمهورية» تشير، على ما يبدو، إلى إيمان أفلاطون بأن المدينة المثالية بحق ستستغني عن وجود جيش؛ لأن الناس سيحيون حياة بسيطة، ولن يفكروا في التوسع في أرضهم لإشباع حاجاتهم، ولأن حب الرفاهية هو الذي يخلق الحروب. ولقد بين سقراط أن المدن تنشأ بسبب عجز الإنسان بحكم طبيعته عن الاكتفاء بنفسه، واضطراره للتعاون مع غيره من الناس، الذين لهم نفس الحاجات مع تفاوت قدراتهم، على تلبية هذه الحاجات. وهؤلاء الناس سيعيشون حياة يتمتعون فيها بالرفاهية والسلام: - فلنتأمل أولا على أي نحو سيعيش أولئك الناس، بعد أن نظمنا حياتهم على هذا النحو. ألن ينتجوا قمحا ونبيذا، ويصنعوا ملابس وأحذية، ويبنوا بيوتا؟ ألن يشتغلوا في الصيف وهم أنصاف عراة، دون أحذية، ويلبسوا في الشتاء ما يكفيهم من الملابس والأحذية؟ إنهم سيصنعون، من أجل طعامهم، دقيقا وشعيرا يخبزونهما ويصنعون منهما شطائر وأرغفة، يجلسون لأكلها إلى جانب قطعة من جذع شجرة أو أغصان مورقة نظيفة، ويضطجعون على أسرة مما يقطعونه من أخشاب، فرشت بالقش أو أعواد الريحان. وهم يولمون مع أطفالهم الولائم، فيحتسون النبيذ وقد اكتست رءوسهم من الأزهار تيجانا، ويسبحون في أغانيهم بحمد الآلهة. وهكذا يحيون معا حياة هنيئة، مع حرصهم على أن يتحكموا في عدد أطفالهم حسب مواردهم ، خشية إملاق أو خوفا من الحرب.
وهنا اعترض جلوكون قائلا: ولكنك قد أطعمت هؤلاء الناس خبزا جافا فحسب. - هذا صحيح، لقد نسيت الأطباق الحافلة، ولكن لا شك في أنه سيكون لديهم الملح والزيتون والجبن، وسيطبخون الجذور والخضر كما يفعل ملاحونا اليوم. أما الفاكهة فسيكون لهم منها التين والكمثرى والبندق، كما يقومون بصنع النبيذ ويشربون منه باعتدال. وبمثل هذا الغذاء تمضي حياتهم في سلام، وتصح أبدانهم ويصلون إلى الشيخوخة، فيورثون هذه الحياة لأبنائهم. - إنك لو كنت تنظم مدينة من الخنازير، لما جعلتهم يعيشون على نحو يخالف ذلك. - فماذا تود إذن أن تمنحهم إياه؟ - متع الحياة المألوفة. فلزام علينا، إن شئنا أن نجعلهم في رغد من العيش، أن نجلسهم على أرائك، ونطعمهم على مناضد، ونقدم إليهم من الطعام والحلوى ما نعرفه اليوم. - حسنا جدا، لقد فهمت الآن. فموضوع بحثنا ليس إذن مسألة قيام الدولة، وإنما قيام الدولة المترفة. وربما لم يكن في هذا البحث ضرر؛ إذ إن تأمل دولة كهذه يجعل من الأسهل علينا إدراك نشأة العدل والظلم. على أني أعتقد أن التركيب الذي رسمته للدولة هو التركيب الصحيح السليم. أما إذا شئت أن ترى دولة بلغت قمة الترف، فليس لدي اعتراض؛ إذ إنني أعتقد أن هناك من لا يرضون عن هذه الحياة البسيطة، وإنما يودون إضافة الأرائك والمناضد وغيرها من الأثاث، والحلوى والعطور والبخور والشطائر، وكل الأنواع الممكنة من هذه الكماليات. فهم لا يرون أن الضروريات تنحصر فيما أوضحته من مساكن وملابس وأحذية، وإنما يضيفون إليها اللوحات المرسومة وكل أنواع الزخارف، واقتناء الحلي والعاج وكل غال نفيس، أليس كذلك؟ - أجل. - إذن، فلنوسع دولتنا، ما دامت الصورة الأولى الصحيحة لم تعد كافية. ففي هذه الحالة تحتشد المدينة وتمتلئ بعدد وافر من الناس، لا يدعو إلى وجودهم فيها سوى الحاجات السطحية، ومن أمثالهم مختلف أنواع القناصة والصيادين، والمقلدون الذين يختص بعضهم بالأشكال والألوان، وبعضهم بالموسيقى، وهم الشعراء ومن يصاحبهم من المغنين ، ومن الممثلين والراقصين ومنظمي المسارح، وصناع مختلف الأدوات، وخاصة أدوات الزينة للنساء . وسنضطر إلى زيادة عدد الخدم، ولا إخالك تظن أننا لن نكون بحاجة إلى معلمين ومرضعات ومربيات، ووصيفات وحلاقين وطباخين ورعاة للحيوان، وهم الذين لم نكن بحاجة إليهم في دولتنا السابقة، وإنما أصبحوا الآن لازمين لتربية مختلف أنواع الحيوانات لمن شاء أكلها. أليس كذلك؟ - بلا جدال. - ولكن الحياة على هذا النحو تجعل وجود الأطباء ألزم كثيرا من ذي قبل؟ - أجل، ألزم بكثير. - ثم تصبح الأرض التي كانت تكفي لإطعام ساكنيها، أضيق وأقل من أن تكيفهم. ألا ترى ذلك؟ - هذا صحيح. - وعندئذ، ألن نضطر إلى أن نتعدى على أرض جيراننا، إن شئنا أن يكون لنا من الأرض ما يكفي للزرع والرعي؟ كذلك، ألن يضطر جيراننا بدورهم إلى التعدي على أرضنا، ما داموا قد استسلموا، بعد عبورهم حدود الضرورة، لشهوة التملك الجامحة؟ - هذا أمر لا مفر منه يا سقراط. - وإذن فسوف نشن الحرب.
11
ومن الغريب أن سقراط، على الرغم من أنه يبدو رافضا «لفرض الرقابة على مدينة تعاني من دستور مريض»، لا يحاول إقناع المستمعين لحديثه بأن يتخلوا عن رغبتهم في حياة أكثر راحة، وإنما يقبل النتائج المترتبة على هذه الرغبة، وهي الحرب والاحتياج إلى جيش دائم.
ويتناول أفلاطون بالتفصيل تربية الحراس، بل التربية بصفة عامة، وتعد الجمهورية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، رسالة عن التربية بجانب غيرها من الموضوعات. وتتوزع أقسام التربية، كما هو العرف السائد عند الإغريق، بين التربية البدنية، التي تتضمن التدريب العسكري، والموسيقى. أما عن الموسيقى، فيلاحظ لويس ديكنسون
Lowes Dickinson
أنه «يجب علينا أن نتذكر أن معنى الكلمة اليونانية كان أوسع بكثير من المعنى الذي نفهمه منها اليوم، إذ كان يضم جميع أنواع التثقيف الخلقي والجمالي والعقلي.» ومع ذلك فإن تربية حاكم المستقبل يجب ألا تنحصر في التربية البدنية والموسيقية، ويجب أن يدرب عقله على التفكير والارتفاع فوق الحواس عن طريق دراسة العلوم الرياضية، حتى يكون قادرا على تكريس نفسه لدراسة الفلسفة الحقة، التي يسميها الدياليكتيك (الجدل ): - إذن فمن الواجب تدريس الحساب والهندسة وكل العلوم التي تمهد لتعلم الدياليكتيك في سن الطفولة. ويجب أن نضفي على تلك الدروس صورة لا تنطوي على أي نوع من الإرغام. - لماذا؟ - لأن تعليم الحر ينبغي ألا يتضمن شيئا من العبودية. فالتدريبات البدنية التي تؤدى قهرا لا تؤذي البدن في شيء، أما العلوم التي تقحم في النفس قسرا فإنها لا تظل عالقة في الذهن. - هذا صحيح.
Unknown page