وهي مقاييس للمدنية متداخلة وإن تنوعت، وتنبثق منها مميزات حضارية كثيرة : منها إعلاء شأن الفرد فوق الجماعة، وإتاحة الفرصة لكل امرئ لكي يعبر عن نفسه تعبيرا حرا كاملا بغير قيد، وتقدير المعرفة لحد ذاتها لا لما تجلبه للإنسان من منافع، وإعداد النشء للحياة العقلية دون العمل الآلي، وإعلاء الدعوة العالمية فوق الدعوة الوطنية، وسيادة روح السخرية والفكاهة. والشخص المتمدن - عنده - لا بد أن يكون متسامحا، رحيما، يجد متعة في الحياة العقلية ولا يحرم نفسه الملذات الحسية، ولا يؤمن بالخرافة، ذواقة للفن، حسن السلوك، وغير ذلك من الصفات التي يعرضها الكاتب في ثنايا كتابه في إسهاب أو إيجاز حسبما يسوقه الأسلوب والتعبير.
وهو عندما يطبق هذه المعايير على إنجلترا المعاصرة يحكم على بلاده بالتخلف في ميدان الحضارة.
يرى بل أن المدنية مطلب الإنسانية، ولا يمكن أن تتحقق إلا إذا وجدت في الأمة طبقة ممتازة يهيأ لها جو خاص تتوفر فيه أسباب العيش كي تحيا حياة نموذجية نسعى جميعا إلى احتذائها. هذه الطبقة ينبغي أن تتفرغ طيلة العمر، وألا تكلف بعمل من الأعمال، وأن تتوفر لها حرية الفكر، وألا يسند إليها الحكم لأن السلطان يفسد النفوس. ويقول الكاتب هنا: إن فرنسا كانت فيها في القرن الثامن عشر أرستقراطيتان: أرستقراطية الحكم، وأرستقراطية الحضارة، وكانت الثانية تظفر بتعضيد الأولى وتأييدها، ولا يرى الكاتب مانعا من عودة هذا النظام.
ولكي ننهض بالشعوب ينبغي لنا فوق هذا أن نكثر من استعمال الآلات حتى يتوفر الفراغ للناس عامة، وأن نعمل على قلة السكان كي يرتفع مستوى العيش، ولما كانت كل جماعة لا تخلو من السفلة الأدنياء فلا مندوحة عن وجود رجال لحفظ النظام، يكون عملهم حماية المدنية لا فرضها على الناس فرضا، لأن المدنية لا تقوم على استبداد الحاكم بمقدار ما تقوم على إرادة الشعب.
هذه بعض آراء بل في المدنية يفصلها في كتابه تفصيلا شائقا، ويضرب لها الأمثال من الحياة ومن التاريخ في أسلوب جزل يأتلف فيه اللفظ مع المعنى.
وللكاتب في غضون كتابه آراء تقدمية ممعنة في التحرر، لا نوافقه عليها، وكانت أمانة الترجمة تقتضينا أن ننقلها للقارئ كما أوردها صاحبها، غير أنا رأينا في بعض المواضع أن نخفف من غلوائها، دون أن نتحمل تبعاتها، وهي على كل حال تثير التفكير وتبعث على التأمل العميق.
محمود محمود
القاهرة - مايو 1959م
الإهداء
إلى فرجينيا وولف
Unknown page