وإذا لم يبلغ تعقله حدا يجعل منه فيلسوفا أو عالما متفرغا للعلم أو الفلسفة، فلا أقل من أن يبصره بأهمية الفكر والمعرفة باعتبارها وسائل لحالات عقلية محببة وللتقدم الذاتي. ومن ثم فإن الرجل الضالع في المدنية يؤثر طلب العلم على أي شيء آخر. وميزته التي لا نزاع فيها هي أنه يفتح الباب لعالم رغباته. التعلم والحساسية هما أثمن الأدوات لرجل ذكي يبحث عن اللذة. فإن كان ذا حساسية وبغير معرفة، إن كان - لذلك - لا يستطيع أن يربط تجاربه الشخصية بالحاضر والمستقبل، أو بقوى الطبيعة، إن كان لا يستطيع البحث في أسباب ونتائج آرائه ومشاعره أو يتلاعب بنظائرها، إن هذا الرجل مثله كمن يجرع النبيذ المختار طوال حياته دون أن يقف لحظة عند رائحته، أو يستطعم عطره، أو يبتسم للونه. الرجل بغير تعليم، إن لم يكن شديد الحساسية، يتحتم عليه أن يبقى على هامش التجربة، يعوزه المفتاح لقصر اللذة الداخلي. إن كل فكرة وكل لون من ألوان الشعور له من النغم الدقيق ما لا يطرق سمع الرجل الذي لم يتعلم. إن الاستمتاع بكل واحدة منها عندما ترتفع، ومعرفة ما في الأماكن غير المطروقة من خفايا غير منظورة، ورؤية موضوع من عدة زوايا مختلفة، وتصور المرء نفسه في ظروف غير ظروفه، وشعوره إنه وريث العصور جميعا وإنه في الوقت ذاته لاه مسكين ينفق الوقت ويتبرم به في غير طائل، وإدراكه أن الدكتور جونسن مفخرة لبني جنسه، وهو في الوقت نفسه حمار مضحك أيضا - هذه هي الملذات التي يجلبها التعليم، ولا يجلبها إلا التعليم وحده. وصدقوني إنها كالشمبانيا أو الكافيار للحياة الروحية، بل وألذ من هذين الشبيهين الماديين.
التعليم حاستنا السادسة، أما عن ذلك التلقين الفني الذي نسميه بالتعليم أحيانا فليس له شأن فيما نتحدث عنه. إن له أهميته، ومن الخير أن يتعلم البنون كيف يحصلون على أكبر قدر ممكن من اللبن من ست بقرات، وأن تتعلم البنات إمساك دفاتر الحساب. إن مثل هذه المعرفة وسيلة للخير، ووسيلة إلى المدنية كذلك، ولكنها وسيلة بعيدة، أما ما عدا ذلك، فإنه من اضطراب الرأي أن نكرم تلقين ما هو مجرد وسيلة «للسير في الحياة» فنطلق عليه اسم «التعليم» الذي هو «استخراج» استخراج لأدق ما لدينا من قوى. وأنا أعلم أنه من الخطأ فلسفيا أن نصف هذا التعليم الحر بأن غايته جمع المعارف، فالمعرفة - كما رأينا - لا تطلب كغاية، ولكن كوسيلة لحالات عقلية لها قيمتها. إن المعرفة في حد ذاتها لا قيمة لها. ومع ذلك فإن القول الشائع بأن الغرض من التعليم الحر هو إثارة حب الاستطلاع لغير ما غرض، هذا القول ليس خطأ، لأنا نفهم منه أنه يعني أن التعليم الحر لا يعين أحدا على «مواصلة السير في الحياة» أو على «النهوض» - أو نقلا عن التعبير الإنجليزي الدقيق «جمع المال» - وإنما يعين على فهم الحياة والاستمتاع بملذاتها الدقيقة.
إن الشخص المتمدن - رجلا كان أو امرأة - في هذا العصر من التاريخ يجب ألا يصدمه أمر من الأمور. يجب أن تتلاشى هذه العلامة من علامات الهمجية، وإذا كان التاريخ، بما يسجله خير عما فكر فيه وشعر به خيار الناس وأحكمهم، وما يسجله عن حكم الاستبداد، وعن البلاهة ، والمحرمات، والعلوم، وبصورته عن الإنسان كشبكة من ردود الأفعال اللاشعورية، إذا كان التاريخ - بهذه الصورة - لم يمكنا في القرن العشرين من التمييز بين الحكم الخلقي والهزة الجثمانية، فإن اللوم لا يقع على «العقل». لقد قيل: إن الآلهة نفسها عبثا ما حاربت الغباء. إن الصدمة النفسية معناها أن العقل قد نزل عن عرشه، والحشمة المتكلفة - كالخوف - تحول بين الإنسان وحكمه الذي لا انحياز فيه. وتجذبنا في هذا الاتجاه وذاك الاتجاه، وتحيرنا في النتائج. حدثني ضباط المدفعية أنه في اللحظة التي يفقد فيها الملاحظ أعصابه يفقد قواه في تصويب بندقيته نحو الهدف تصويبا دقيقا، كما يفقد قواه في الحكم على أثرها في عدوه. عندئذ يستولي الخوف على المرء ويتلاعب به كيفما شاء، ويحرف الحكم لمصلحته، والحشمة المتكلفة لها أثر مشابه. ولو أن علماء التشريح تقززوا من منظر جثة الإنسان، وأشاحوا عنها بوجوههم، وأبوا أن يتابعوا عملية التشريح، لو أنهم فعلوا ذلك لبقينا إلى يومنا هذا في جهل بيولوجي مطبق، وكيف يمكن لأولئك الذين يأبون أن يبحثوا - بل أن يتفهموا إن أمكن ذلك - في الشاذ، أو غير المألوف، من الأذواق والعادات والميول وأنواع الإسراف البدني والعاطفي - كيف يمكن لهؤلاء أن يعرفوا أي شيء من علم النفس أو الأخلاق، لو أنهم ذعروا وصاحوا «لقد صدمنا». إنهم لن يفحصوا أسباب ما يغمهم أو نتائجه. إنهم لا يرون قط الشيء نفسه بكليته في ثبات؛ لأن نوعا من الغثيان الجثماني أو المحرمات البائدة - التي يسرهم أن يسموها «تنكرا خلقيا» أو «إحساسا بالاحتشام» - يثور في نفوسهم ويعمي أبصارهم. إنهم لا يستطيعون أن يمسوا الثعبان لأن أبدانهم تقشعر لملمسه، وربما كان كذلك، وليس هذا مما يؤيدهم في شيء، ولا يجوز أن يجعلوا من العجز البدني فضيلة، ولا يجوز أن يدينوا الثعبان ودارسيه من أجل هذا، ولكنهم «مضطربون». وحقا إنهم ليضطربون، والوصف بهذه الكلمة فيه حسن اختيار ما دام العقل ينبذ، وهم يعلمون أن الثعابين «مريعة» وإن كان علماء الحيوان يؤكدون لهم أنها جميلة ومسلية، وهذه الحشمة المتكلفة تختلف عن الخوف - الذي كثيرا ما يكون وسيلة للاحتفاظ بالذات، وقد يقوم على العقل - تختلف عنه في أنها تعود بكليتها إلى الخرافة حينما لا تكون مجرد غثيان بدني. إنها محنة لا تقابلها مزية، ونحن لا نستطيع أن نتمنى استبعاد الخوف كلية، غير أننا لو استطعنا أن نخلص أنفسنا من الاحتشام تقدمنا في ألف اتجاه ولم نتقهقر في اتجاه واحد.
إن الرجل الكامل المدنية يعلو على تكلف الحشمة، وحيث إنه يرغب في بلوغ الحقيقة فإنه يحاول أن يعلو كذلك على الغضب والهوى، فإن لهما نفس الأثر في تقييد حرية التفكير. الرجل المتمدن متسامح متحرر. وليس معنى ذلك أنه لا يحتد قط أو يشتطن وكما اكتشف أنه إذا أغلق أحد أبواب العقل بالتحيز فلا مفر من أنه بذلك يصد بعضا من أكثر زائريه سحرا، فكذلك سوف يدرك الرجل المتمدن أنه قل جدا من حوادث الغضب ما لا يمكن إخضاعه للعلاج العقلي. وكما أن الجواب الهادئ يبدد الغضب، فكذلك تطفئ روح الفكاهة نيران الغيظ. لا بد للرجل المتمدن من أن يكون حرا متسامحا.
وإني لعلى يقين من أن أحدا لا يتصور أني حينما أقول «حرا» أفكر في السياسة؛ فلسنا نعرف ماذا عسى أن تكون عليه الآراء السياسية للرجل المتمدن، ولا نؤكد إلا أمرا واحدا؛ ستكون هذه الآراء النتيجة المنطقية لفكرة واضحة عما يريده فعلا، وما يريده قد يكون الخير المطلق، أو أن يكتفي بتوفير أسباب راحته بقدر المستطاع. وكلا الغرضين هدف معقول، وكلاهما - مع حسن إدراكهما وصحة الرغبة فيهما - يمنعه من أن يعلق أقل أهمية على تلك العبارة المذهلة التي يتلاعب بها الساسة المحترفون. الحرية، والعدالة، والمساواة، والإخاء، والمقدسات، والحقوق، والواجبات، والشرف، كل هذه الألفاظ الغالية قد تحمل معنى وقد لا تحمل أي معنى. وسيان إن قلت إنك تؤيد مشروع قانون نقابات العمال لأنه عادل، أو قلت إنك تؤيده لأنه غير عادل، فليس لهذا القول أو ذاك معنى؛ فإن العدالة ليست غاية في حد ذاتها، إن العالم الذي يسوده العدل الشامل ولا شيء غير هذا ، عالم تافه كذلك الذي يسوده الظلم المطلق ولا شيء غير ذلك؛ فإذا كنت تؤيد مشروع قانون نقابات العمال لأنه وسيلة بعيدة للخير المطلق كان ذلك منك قولا جريئا وموقفا كريما (لأن النتيجة ترتكز على مقدمات صحيحة، وليس عليك إلا أن تثبت أن النتيجة قد استنبطت استنباطا طبيعيا) وكذلك إن أنت اعترضت على مشروع القانون لأنك تعتقد أنه سيؤدي في النهاية إلى تخفيض ما تتناول من أجر كان ذلك سببا جميلا جدا للمعارضة. أما إن أيدت القانون لأنه عادل، أو اعترضت عليه لأن جائر، فأنت تؤيد أو تعترض لغير ما سبب صحيح، لغير ما سبب بتاتا. إن السؤال الوحيد الذي يسأله الرجل المتمدن عن أي إجراء سياسي هو هذا «هل هو وسيلة لما أريد، أو هل يؤدي إلى غير ما أريد؟» فإن أحدا لا يريد العدالة أو المساواة في الفضاء، إنما هذه أمور - إن رغبت فيها إطلاقا - رغبت فيها كوسائل، وهنا يتساءل الرجل المتمدن: وسائل لماذا؟ وبطبيعة الحال، قد يحدث أن أرغب أنا وترغب أنت معي في غاية واحدة، ولكنا نختلف فيما إذا كان قانون معين يصدره البرلمان يكون الوسيلة لهذه الغاية. هنا يتسع المجال للجدل والتفسير. وأكثر من ذلك احتمالا أن ما يكون وسيلة لما يريده رجل يكتسب أربعة جنيهات في الأسبوع لا يكون وسيلة لما يريده رجل يكتسب عشرة آلاف جنيه في العام. وحيث إن الإجراء المقترح يحكم عليه بمختلف المعايير، فإن الاتفاق النهائي لا أمل فيه، والتوفيق هو خير ما نأمل فيه، ولكن في مثل هذه الحالة إذا أثار أحد الجانبين كلمات خلابة «كالحقوق» و«الواجبات» أو إذا اتهم أحد الطرفين الآخر بالانحراف عن الأخلاق، ما كان في ذلك من العقل أكثر مما يكون عندما يشتم لاعب الكريكت في جامعة أكسفورد خصمه من كامبردج لأنه هزمه في اللعب. إن أهداف الطرفين معقولة، ولكنها تختلف، وليس هناك مجال للكلام القارص. وإنما ينشأ هذا المجال حينما يرغب غيرنا من الناس في الغاية التي نرغب فيها، ولكنهم يستخدمون وسائل من الواضح أنها لا تؤدي في النهاية إلى تحقيق الغاية؛ هؤلاء نسميهم أغبياء ولا نسميهم أشرارا. إن النقد الخلقي لا يمكن قبوله في الجدل السياسي إلا إذا اتفق الجميع على ما يكون خيرا كغاية ، وقد يكون ذلك ممكنا، واتفقوا كذلك على أن الإجراءات السياسية وسائل لهذه الغاية، وليس ذلك أمرا ميسورا. هل زيادة راتبي خمسين جنيها في العام يحتمل - في النهاية القصوى - أن تؤدي إلى زيادة الخير المطلق - أي زيادة الحالات العقلية التي لها قيمتها - أكثر مما يؤدي إليه إمداد ملاعب سنت بانكراس بتلال الرمال وصناديق الأوراق المهملة؟ إنه سؤال دقيق لي فيه رأي محدد كما سيتبين لكم إذا طالعتم كتابي حتى نهايته، ولكنكم سوف ترون كذلك أني لا آمل كثيرا في أن أحمل كل إنسان على الاتفاق معي في الرأي. إن الرجل المتمدن من جميع الوجوه يضع كل هذه الأمور في اعتباره، وهو وإن يكن شديد الاهتمام بشئون السياسة أن يرجع إلى تلك المبادئ العتيقة الرنانة، ولن ينظر إلى رغبته الطبيعية في الاستمساك بما لديه على أنها أحق من رغبة خصمه في الحصول عليه لنفسه. إنه لا يخدع نفسه بالكلمات والعبارات. إن صاحب الملايين المتمدن يتفق مع الحكومة الروسية الحالية لأنها تحرم الإضراب، ولو كان مستر لانزبري متمدنا ما أعتقد من صميم قلبه أن أبناء دائرته الانتخابية أحق بأجر العمل من دوق نورثمبرلاند بثروته. إن عجزنا عن أن ندرك أن آمال الفرد أو مخاوفه الخاصة تتفق والخير المطلق - إن عجزنا هذا يجعل من غير المحتمل للرجل الضالع في المدنية أن يظفر بالثقة في انتخاب شعبي.
ولما كان الرجل المتمدن متسامحا لا يميل إلى التدخل في شئون الآخرين، فلا بد أن يكون على سلوك حسن. أن إحساسه بالقيم يقنعه بأهمية هذا السلوك في التنعم بالحياة، حتى إن لم يدله العقل على أنه ضروري للمعرفة، فإذا كان فهمك الناس أجمعين يدعو إلى تسامحك معهم أجمعين، فإن تسامحك يسير بك إلى منتصف الطريق في فهمهم. إذا طمأنت الرجل بحسن سلوكك وجميل خطابك سرت على الدرب الذي يؤدي بك إلى تأسيس علاقات عاطفية، وبذلك تيسر له أن يقدم خير ما عنده، وإن أنت أقمت تلك الحواجز التي يصطلح على نبذها كل سلوك حسن، إن أنت فعلت ذلك أقمت بينك وبينه الشك، والتوتر، والمضاربة، وتقرير الذات، وثق أنك لن تظفر بشيء أفضل مما أعطيت. لا يغرينا شيء قط بالإفضاء بأعز أسرارنا للمتكبرين ناقصي التربية. من أجل هذا ترى الرجل الدنيء، والوثاب، والمشاغب، مدعي العلم الذي لا يوثق فيه، ومدعي الكمال الذي يفرض شخصيته - هؤلاء يتسللون في هذه الحياة أو تجرفهم الحياة دون أن يتذوقوها. إن كل اتصالاتهم من جانب واحد، وحينما يشتد الواحد منهم يستطيع أحيانا أن يقبض على ناصية الحياة ويهزها هزا. ذلك أن الرجل الذي يحمل المشابك في أطراف يديه يستطيع أحيانا أن يمسك بك من عقبك ويلقيك أرضا، ولكنه لا يستطيع أن يدرك آلاف الهزات العاطفية العجيبة التي يحسها عندما يربت على كتف زميل أو يضغط على كفيه. ليس من شك أن في الحياة كثيرا من الأمور الطيبة يستطيع المرء أن يحققها بمجرد قوة الذهن والشخصية. غير أن هناك ما هو خير منها - أو أدق منها على الأقل - لا تستطيع أن تشتريها بأقل ثمنا من حسن السلوك. ومن هذه أفضلها الحديث - الحديث الحقيقي - تبادل العواطف والآراء بين أفراد عزل من السلاح تماما، قلوبهم مطمئنة، أفراد تخلو نفوسهم من الخوف ومن الريبة، كما يخلون من الأغراض، لا يسعى الواحد منهم إلى فرض نفسه أو التظاهر بها، وإنما يسعى إلى الحقيقة عن طريق اللذة، الحديث متعة لا يعرفها إلا المتمدن وحده.
الرجل الضالع في المدنية - بطبيعة الحال - لا بد أن يكون ذواقة في الحياة. لا بد أن يميز، وأن تكون له حاجات معينة ورغبات معينة. إن المدنية - ذلك المظهر المعقد من مظاهر الذكاء الفردي والحساسية ضد غريزة القطيع، هذه المدنية لا تقبل قط المعايير المنحطة أو تخضع لسلطان السوقة. إن الخراف الهمجية والنعاج البلهاء عبيد للسيد الذي يرتدي لباس السهرة. تحدد لهم السوقة ما ينبغي أن يكون من اختيارهم الشخصي الخاص. ينتقي لهم السادة هارود وسلفردج النبيذ والسيجار، والمعاطف، والأحذية والقبعات والقمصان، ويعين لهم السادة هتشرد ومودي أي الكتب يقرءون، ويمدهم تجار شارع بوند بالصور، كما يمدهم سر توماس بيتشم وسر هنري وود بالموسيقى وحبوب الدواء، وسر أزولدسنتل وهوليود بالنكتة، والجمال، والإحساس بالخيال. إن ملوك الأسواق الكبرى يصيحون فيهم قائلين: «هنا أيتها السيدات والسادة في الإمبراطورية البريطانية، هنا خير الأصناف»، وتقف سيدات وسادة الإمبراطورية البريطانية طائعين في الصف، ولا يجرؤ على مواجهة هؤلاء المتعهدين بالتوريد الذين يقدمون السلع المزخرفة إلا قليل من الضالعين في المدنية، قائلين لهم: إن ما يقدمونه لا يتفق وما هم في حاجة إليه.
لكي يكون الرجل متمدنا يجب أن يكون لديه ذوق للاختيار والتقدير، ولكني أذكركم مرة أخرى أنه لا ينبغي أن تكون لديه القدرة على الابتكار، فإن ابتكر، فلا بد أن يحمل ابتكاره علامات المدنية، غير أن هذه العلامات - ما دامت كلها عرضية لا تؤثر قط في القيمة الذاتية لعمله - ليست مما يأبه له رجل يقدر الجمال خالصا، وإن تكن لها أهمية قصوى للمؤرخين الذين يحاولون أن يكشفوا عن مميزات العصر الذي صيغت فيه، أو الفنان الذي صاغها، وإذا كانت «الأوديسي» أعلى قدرا من «أغاني رولان»، فليس مرد ذلك إلى أن الأولى تلونت بلون مدنية بازغة، والثانية بهمجية آفلة. إن الفنان المتمدن يظهر في فنه مدنيته، إلا أن هذا المظهر ليس من جوانب الفن التي لا محيص عنها. إن الرجل المتمدن لا يتصف بالخلق أكثر مما يتصف به الرجل الهمجي، ولكن التمييز والتقدير الواعي من صفات الرجل المتمدن، ومن العسير أن نحكم بالمدنية على الرجل الذي لا يتأثر البتة بأي فن من الفنون.
ومهما يكن من أمر، فإن حياة المدنية إذا خلت من الإحساس الجمالي المتصل العنيف تتعرض لخطر الفراغ. إن ملذات حياة المدنية تأملية في أساسها، ومن بين التجارب التي يمارسها المرء خلال تأمله، ربما كانت التجارب الجمالية أكثرها أهمية؛ لأنها وإن تكن أقل غزارة من العواطف التي يستمدها المرء من صلاته الشخصية إلا أنها أشد تأكيدا وأكثر دواما، وهذا الإيثار للتأمل (وأنا أستخدم الكلمة في أوسع معانيها) وهو من أعز المميزات التي يستمدها المتمدنون من إحساسهم بالقيم، هو الذي يعلل بغضهم المستمر للتدخل في شئون الآخرين، ذلك التدخل الذي يسميه كتاب السير المتميزون «حياة العمل»، وواضح أن من ضروب النشاط ما يمكن أن يكون وسائل للخير، وهذه الضروب لا مناص للرجل المتمدن من تأييدها دائما، ومن ممارستها أحيانا، ولكن لما كانت حياته بالفعل مليئة بوسائل الخير المباشرة، وما دام لديه من الصلات الشخصية ما يستمتع به، ومن الجمال ما يتأمله، أو يبدعه، ومن الحق ما يسعى إليه، فإنه يعزف دائما عن التضحية بهذا المحسوس في سبيل ما قد يتبين أنه وهم من الأوهام. إنه يريد أن يعمل لكي يعيش - إن كان لا بد له من ذلك، فالحياة وسيلة ضرورية من وسائل الخير. ولكنه بعدما يكفل بقاءه، يقف من الحياة موقفا قابلا لا فاعلا. إن حياة العمل - في أحسن حالاتها - قد تكون حياة حركة دائبة في السعي وراء ما قد يتبين أنه وسيلة من وسائل الخير - الخير للعامل - أو على الأرجح - للآخرين، ولكن العمل في حد ذاته عديم القيمة، وقلما تكون للحالة العقلية التي تتولد عنه أية قيمة. وفي أكثر الأحيان يكون العمل باعثا على حالات عقلية سيئة بالنسبة إلى العامل، وباعثا على الإزعاج المتواصل بالنسبة للآخرين.
لقد اعترفت بأن حياة العمل (ولست أسمي الحياة التي يكرسها صاحبها لمجرد اكتساب القوت، حياة عمل - فالعامل الزراعي ليس رجلا من رجال العمل) ربما كانت وسيلة من وسائل الخير، وبخاصة خير الآخرين، إلا أن الأشخاص العاملين حقا - رجالا كانوا أو نساء - لا يشنون الحرب عادة أو يقيمون المذابح، ولا يتسلطون على الضعيف ويستثيرون القوى، ولا يتدخلون في شئون جيرانهم ويقلبون الدنيا رأسا على عقب - لا يفعلون ذلك مدفوعين ببواعث الإيثار، إنهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم لا يستطيعون أن يفرضوا شخصياتهم إلا بالعمل. إن ما يسمونه شخصا عمليا - رجلا كان أو امرأة - ليس إلا فنانا شائها ناقصا، يتشوق إلى التعبير عن نفسه، ولما كان لا يستطيع ذلك بالخلق والإبداع، فلا مناص له من التدخل في شئون الآخرين. أمثال هؤلاء هم نكبتنا، وما أكثرهم. إنهم لا يكتفون بالمحبة والصداقة، والحديث، وإبداع الجمال أو التأمل فيه، أو متابعة الحق والمعرفة، أو إشباع حواسهم، أو باكتساب قوت يومهم في هدوء، بل لا بد لهم من الظفر بالنفوذ، ولا بد أن يفرضوا أشخاصهم، ولا بد أن يتدخلوا في شئون غيرهم. هم صانعو الأمم والإمبراطوريات، وهم الذين يخلون بالسلام. هم مخرجو الإنسان من خير جوانبه. هم عمد الهمجية - أو إذا تبعنا كتاب السير - هم عمد المجتمع. إنهم غير مهيئين للذات المدنية، ولكنهم لا يسمحون لجيرانهم الذين كانوا أوفر منهم حظا في هذا السبيل بالاستمتاع بها. لا بد لهم من فرض معاييرهم وطرقهم في الحياة. وأسوأ من هذا كله أنهم يدفعون من بين من هم يسيرون في اتجاه المدنية بالطبيعة من كان أقل وضوحا في بصيرته - يدفعون بهؤلاء إلى عمل يدفعون به عن ذواتهم - أو قل يدفعون بهم إلى شبه الهمجية.
Unknown page