Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وهكذا يبدو تاريخ فلورنسا الداخلي منذ القرن الثالث عشر بالنسبة لمكيافيللي على هيئة سلسلة من الانتقالات المحمومة بين هذين النقيضين، تمزقت خلالها المدينة وحرياتها إربا في نهاية المطاف. يستهل الكتاب الثاني ببداية القرن الرابع عشر حينما كان النبلاء ممسكون بزمام السلطة، هذا أدى مباشرة إلى طغيان دوق أثينا عام 1342، حينما رأى المواطنون «هيبة حكومتهم تتحطم، وقواعدها تكسر، وقوانينها يضرب بها عرض الحائط» (1128)؛ لذلك هبوا ضد الطاغية ونجحوا في تأسيس نظامهم الشعبي، لكن - حسبما روى مكيافيللي في الكتاب الثالث - هذا النظام بدوره تفسخ وتحول إلى الانفلات عندما تمكن «العامة النزقون» من السيطرة على الجمهورية عام 1378 (1161-1163)، ثم تأرجح البندول تارة أخرى عائدا إلى «الأرستقراطيين ذوي الأصول الشعبية»، وبحلول منتصف القرن الخامس عشر كان هؤلاء أيضا يسعون إلى تقليص حريات الشعب، مما ساعد على ظهور شكل جديد من أشكال الحكم الاستبدادي (1188).
من الصحيح أن مكيافيللي، بوصوله إلى هذه المرحلة النهائية من سرده في الكتابين السابع والثامن، يبدأ في تقديم سرده بأسلوب أكثر التفافا وتحفظا؛ حيث يصبح موضوعه الرئيسي هو لا شك صعود عائلة مديتشي، ويبدو واضحا أنه يشعر بوجوب إفساح بعض المجال لحقيقة أن نفس العائلة هي التي منحته فرصة كتابة «تاريخ فلورنسا». لكن رغم أنه يتجشم عناء كثيرا كي يخفي عداءه لهم، يسهل علينا أن نستبين مجددا شعوره حيال دور عائلة مديتشي في تاريخ فلورنسا، إذا ربطنا أجزاء بعينها من نقاشه الذي يحرص على أن يبقيها منفصلة.
الكتاب السابع يبدأ بنقاش عام عن أخبث الوسائل التي يستطيع مواطن بارز من خلالها أن يأمل في إفساد الجماهير بحيث يشجع ظهور الفصائل المنقسمة، ويكتسب لنفسه سلطة مطلقة. وهذه مسألة جرى تناولها بالفعل تناولا مكثفا في «المطارحات»، ويكتفي مكيافيللي في الأغلب بتكرار ما قدمه من حجج سابقة؛ إذ يقول إن الخطر الأكبر هو السماح للأغنياء باستخدام أموالهم في كسب «أنصار يتبعونهم سعيا إلى تحقيق منفعة خاصة»، بدلا من السعي إلى تحقيق الصالح العام. ويضيف بأن هذا يجري بطريقتين أساسيتين؛ الأولى: «من خلال تقديم خدمات لمختلف المواطنين، كالحماية من رجال القانون والمساعدة بالمال والمساعدة في الحصول على مناصب هم غير أهل لها.» والثانية: «من خلال إسعاد الجماهير بوسائل الترفيه وتقديم الهبات الاجتماعية»، وهذا يتضمن تأدية عروض مكلفة من نوعية تهدف لكسب شعبية زائفة وتسكين الشعب إلى أن يخسر حرياته (337).
إذا انتقلنا إلى الكتابين الأخيرين من «تاريخ فلورنسا» آخذين هذا التحليل في الاعتبار، فلن يصعب علينا أن نتبين لهجة البغض المستترة وراء ما يرويه مكيافيللي من سرد حار العاطفة عن حكومات مديتشي المتعاقبة. فهو يبدأ بكوزيمو، الذي يغدق عليه مديحا راقيا في الفصل الخامس من الكتاب السابع، مشيدا به على وجه الخصوص لتفوقه على «كل رجال عصره»، ليس فقط «في النفوذ والثروة، لكن في السخاء أيضا.» لكن سرعان ما يتبين لنا أن ما كان مكيافيللي يقصده فعلا هو أن كوزيمو حين مات «لم يكن هناك مواطن في المدينة، مهما كان مستواه، إلا وكان كوزيمو قد أقرضه مبلغا ضخما من المال» (1342)، وقد أشار مكيافيللي من قبل إلى التأثير المفسد لهذا السخاء المتعمد. بعد ذلك، ينتقل مكيافيللي إلى السيرة المهنية القصيرة لابن كوزيمو ، بييرو دي مديتشي. في أول الأمر يوصف بأنه «فاضل ومبجل»، لكننا سرعان ما نعلم أن إحساسه بالتبجيل شجعه على أن يقيم سلسلة من بطولات الفروسية والاحتفالات الأخرى، التي كانت باذخة وفخمة إلى درجة كانت تجعل المدينة تظل منشغلة لأشهر في التحضير لها وعرضها (1352). ومن جديد، ليست هذه المرة الأولى التي يحذرنا فيها مكيافيللي من التأثير الضار الذي تلحقه هذه المغريات الصاخبة بالجماهير. وأخيرا، عندما يأتي مكيافيللي على ذكر سنوات لورنزو العظيم - ومن ثم على ذكر فترة شبابه - نراه لا يكاد يتكلف عناء إخفاء نبرة الكراهية المتصاعدة؛ فهو حينما يصل إلى هذه المرحلة، يعلن أن «حظ» عائلة مديتشي وسخاءهم» لعبا دورا حاسما في تحقيق تأثيرهم المفسد، لدرجة أن «آذان الناس قد صمت» عن فكرة التخلص من طغيان عائلة مديتشي، وبالتالي «لم تعد فلورنسا تعرف الحرية» (1393).
المحنة الأخيرة
رغم نكوص فلورنسا إلى الطغيان، ورغم عودة البرابرة، كان مكيافيللي يشعر بأنه يمكن أن يواسي نفسه بالاعتقاد في أن إيطاليا نجت من أحط أشكال الإذلال على الإطلاق؛ ذلك لأن البرابرة رغم دخولهم إيطاليا، لم يفلحوا في تخريب أي من مدنها الكبرى. وقد ذكر مكيافيللي في كتاب «فن الحرب» أن تورتونا خربت حقا، «لكن هذا لم يحدث مع ميلانو، فقد حدث التخريب مع كابوا لكن لم يحدث مع نابولي، وحدث مع بريشا لكنه لم يحدث مع البندقية.» وأخيرا «حدث مع رافينا لكنه لم يحدث مع روما» أهم رمز في إيطاليا على الإطلاق (624).
كان يتعين على مكيافيللي أن يتعرف على طريقة أفضل لالتماس رضاء «الحظ» من هذا الشعور بالثقة المفرطة؛ وذلك لأنه في مايو عام 1527 حدث ما لم يكن يخطر ببال. كان فرانسيس الأول قد تآمر عام 1526 بالدخول في تحالف، كي يستعيد مستعمرات له في إيطاليا كان قد اضطر لتسليمها بعد أن مني بهزيمة ساحقة على يد القوات الإمبراطورية عام 1525. وإزاء هذا التحدي، أمر شارل الخامس جيوشه بأن تدخل إيطاليا مجددا في ربيع عام 1527، لكن نظرا لأن القوات لم تكن قد حصلت على أجورها، ولأنها كانت تفتقر إلى التنظيم والانضباط، فإنها بدلا من أن تهاجم الأهداف العسكرية، تقدمت مباشرة نحو روما، فدخلت المدينة العزلاء في السادس من شهر مايو، وعاثت فيها فسادا خلال مذبحة دامت أربعة أيام أرعبت وأذهلت العالم المسيحي بأسره.
بسقوط روما، اضطر كليمنت السابع للفرار كي ينجو بحياته، وبفقدان الدعم الذي توفره البابوية، سرعان ما انهارت حكومة مديتشي التي كانت شعبيتها تشهد تدهورا متزايدا في فلورنسا. وفي السادس عشر من شهر مايو اجتمع مجلس المدينة لإعلان استعادة الجمهورية، وفي صباح اليوم التالي ارتحل شباب أمراء مديتشي من المدينة إلى المنفى.
بالنسبة لمكيافيللي، المعروف بتأييده القوي للنظام الجمهوري، كانت استعادة الحكم الحر في فلورنسا لحظة انتصار ولا شك، لكن في ضوء علاقاته بعائلة مديتشي، التي كانت تدفع راتبه على مدى السنوات الست الماضية، كان في نظر الجيل الأصغر سنا من الجمهوريين لا يكاد يزيد عن كونه عميلا مسنا وعديم الأهمية للاستبداد السيئ السمعة. ورغم أن آماله في استعادة منصبه القديم في البعثة الدبلوماسية الثانية كانت قد تجددت، لم يكن ثمة شك في أنه لن يمنح أي منصب في الحكومة الجديدة المناهضة لعائلة مديتشي.
يبدو أن كل هذا القدر من سخرية القدر قد حطم معنويات مكيافيللي على نحو سرعان ما عجل بإصابته بمرض لم يتعاف منه قط. ولعل قصة طلبه أن يحضر إليه كاهن وهو على فراش الموت كي يسمع منه اعترافا أخيرا، كانت أكثر القصص التي أعاد كتاب السير ذكرها، لكن هذا دون شك تلفيق ديني الطابع جرى اختلاقه في وقت لاحق. كان مكيافيللي ينظر طوال حياته بعين الازدراء إلى الطقوس الكنسية، وما من شيء يشير إلى أنه غير رأيه هذا لحظة موته. وقد توفي في الحادي والعشرين من يونيو، بين أفراد عائلته وأصدقائه، ودفن في كنيسة سانتا كروتشي في اليوم التالي.
Unknown page