Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
1
ما من شك في أن مكيافيللي كان يعي تماما هذا المظهر الأكثر عمقا من مظاهر تأريخ الفلاسفة الإنسانيين؛ لأنه يشير في إعجاب إلى عمل بوجو في افتتاحية كتابه «تاريخ فلورنسا» (1031)، لكن عند هذه المرحلة - بعد أن سار على النهج الإنساني بهذا القدر الكبير من الالتزام - إذا به يحطم فجأة التوقعات التي أثارها من قبل؛ ففي بداية الكتاب الخامس، عندما يتحول إلى دراسة تاريخ فلورنسا خلال القرن السابق، يعلن أن «الأمور التي فعلها أمراؤنا، في الخارج والداخل، لا يمكن أن يقرأها المرء بنفس قدر الإعجاب «بالقوة» والعظمة، الذي يقرأ به عن الأمور التي فعلها القدماء». ببساطة ليس من الممكن «أن نحكي عن شجاعة الجنود أو عن «قوة» القادة العسكريين أو عن حب المواطنين وطنهم»، وإنما يمكننا فقط أن نحكي عن عالم يزداد فسادا نشهد فيه «نوعية الحيل والمخططات التي أدار بها الأمراء والجنود وزعماء الجمهوريات شئونهم، من أجل الحفاظ على السمعة التي لم يكونوا جديرين بها.» وهكذا يحدث مكيافيللي تغييرا تاما للافتراضات السائدة بشأن الغرض من سرد التاريخ؛ فبدلا من سرد رواية «تلهب الأرواح الحرة لتحفزها على التقليد»، هو يأمل أن «يلهب هذه الأرواح ليحفزها على تجنب مفاسد الحاضر والتخلص منها» (1233).
وهكذا فإن مجمل كتاب «تاريخ فلورنسا » يدور حول موضوع الاضمحلال والسقوط؛ إذ يصف الكتاب الأول انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب، وزحف البرابرة على إيطاليا. وتصف نهاية الكتاب الأول وبداية الكتاب الثاني كيف أن «المدن والولايات الجديدة التي ولدت من بين الرفات الروماني تميزت بقدر من «القوة» جعلها تحرر إيطاليا من البرابرة، وتصد عنها أذاهم» (1233). لكن بعد هذه الفترة الزمنية الوجيزة من النجاح المتواضع، يقدم مكيافيللي بقية سرده - من وسط الكتاب الثاني إلى نهاية الكتاب الثامن، الذي ينتهي عند تسعينيات القرن الخامس عشر - على صورة سنوات من الفساد والانهيار المتصاعد، ثم يصل إلى الحضيض عام 1494، عندما تحدث المهانة المطلقة: حيث «تخضع إيطاليا للعبودية من جديد» تحت حكم البرابرة الذين كانت إيطاليا قد نجحت في إجلائهم من قبل (1233).
اضمحلال فلورنسا وسقوطها
إن الموضوع الغالب على كتاب «تاريخ فلورنسا» هو الفساد، حيث يصف مكيافيللي كيف تملك نفوذه الخبيث من فلورنسا، فخنق حريتها، وانتهي بها أخيرا إلى الطغيان والعار. ومثلما فعل مكيافيللي في «المطارحات» - التي يتبع نفس نهجها اتباعا دقيقا - يرى أن هناك مجالين رئيسيين تميل روح الفساد لأن تنشأ فيهما. وبعد أن يميز بينهما في تمهيد الكتاب، يستخدم ذلك في تنظيم كل ما سيرويه فيما بعد. أولا، التعامل على صعيد السياسات «الخارجية» دائما ما ينطوي على خطر الفساد، والأعراض الرئيسية لذلك تتمثل في نزوع نحو إدارة الشئون العسكرية بقدر متزايد من التردد والجبن. وثانيا، ثمة خطر مماثل فيما يتعلق بالأمور «التي تجرى في الداخل على أرض الوطن»، حيث يتمثل نمو الفساد في المقام الأول في شكل «صراع أهلي وتشاحن داخلي» (1030-1031).
يتناول مكيافيللي أولى هاتين القضيتين في الكتابين الخامس والسادس، اللذين يتناول فيهما في المقام الأول تاريخ الشئون الخارجية الفلورنسية، لكنه لا يتكفل - كما سبق وفعل في «المطارحات» - بأن يقدم تحليلا مفصلا عما شهدته المدينة من أخطاء وسوء تقدير في المجال الاستراتيجي، بل يكتفي بتقديم سلسلة من الأمثلة الساخرة على القصور العسكري الفلورنسي؛ وبهذا يتمكن من الحفاظ على الشكل المتعارف عليه للسرد التاريخي الإنساني - الذي كان دائما ما يحوي روايات مستفيضة عن أشهر المعارك - بينما في الوقت نفسه يحاكي مضمونه على نحو ساخر. فأهمية ما يورده مكيافيللي من روايات عن الأحداث العسكرية هو أن جميع الاشتباكات العسكرية التي يصفها تبعث على السخرية، ولا تتسم بالشجاعة أو المجد على الإطلاق. على سبيل المثال، حينما يكتب عن معركة «زاجونارا» الكبرى، التي دارت رحاها عام 1424 في بداية الحرب ضد ميلانو، أشار أولا إلى أن هذه الحرب اعتبرت في حينها هزيمة نكراء لفلورنسا، وأنها «حكيت أخبارها في كل أنحاء إيطاليا.» ثم يضيف أنه ما من أحد مات في الحرب عدا ثلاثة فلورنسيين «سقط كل منهم من فوق صهوة جواده، وغرق في الوحل» (1193). بعد ذلك، يضفي نفس الطابع الساخر على الانتصار الشهير الذي حققه الفلورنسيون في معركة «أنجياري» عام 1440، فهو يشير إلى أنه طوال هذه المعركة الممتدة، «لم يمت إلا رجل واحد، لم يهلك متأثرا بجراح أو بأي ضربة مشرفة، بل لأنه سقط من فوق صهوة حصانه وداسته الأقدام» (1280).
يخصص ما تبقى من «تاريخ فلورنسا» للحكاية البائسة التي تدور حول ازدياد فلورنسا فسادا على الصعيد الداخلي، وعندما يتحول مكيافيللي إلى هذه النقطة في بداية الكتاب الثالث، يوضح في بادئ الأمر أنه، بالحديث عن الفساد الداخلي، يقصد في المقام الأول - كما هي الحال في «المطارحات» - اتجاه قوانين المدينة وتشريعاتها لأن تكون «غير هادفة للنفع العام»، وإنما للنفع الفردي أو الطائفي (1140).
وينتقد مكيافيللي اثنين من أسلافه العظام، هما بروني وبوجو؛ لأنهما لم يتنبها بالقدر اللازم لهذا الخطر في سردهما لتاريخ فلورنسا (1031) ويبرر انشغاله الشديد بهذا الموضوع بأنه مصر على أن العداوات التي تنشأ عندما يفقد المجتمع «قوته» بهذه الطريقة «تجلب مفاسد تستشري في المدينة»، والحالة البائسة التي انتهت إليها فلورنسا خير مثال على ذلك (1140).
في بادئ الأمر يسلم مكيافيللي بأن أي مدينة ستحوي دائما «عداوات شديدة وطبيعية بين الشعب والنبلاء»، بسبب «رغبة النبلاء أن يحكموا ورفض الشعب أن يستعبد» (1140). لكنه، كما فعل في «المطارحات»، لم يفترض أنه من الممكن تجنب جميع هذه العداوات، ويكرر رأيه السابق بأن «بعض الانقسامات تضر بالجمهوريات وبعض الانقسامات تفيدها»؛ فالانقسامات تلك التي تضرها يصحبها وجود فصائل وموالين؛ وتلك التي تفيدها لا يصحبها وجود فصائل وموالين، «ومن ثم فإن هدف المشرع الحصيف لا ينبغي أن يكون «منع وجود عداوات»، وإنما أن يضمن «ألا تكون هناك فصائل» قائمة على العداوات التي ستنشأ لا محالة (1336).
لكن العداوات التي نشأت في فلورنسا كانت دائما يصحبها وجود «فصائل» (1337)، ونتيجة لذلك، كانت المدينة من بين المجتمعات السيئة الحظ التي حكم عليها بأن تتأرجح بين قطبين مدمرين على حد سواء، متذبذبة بين «العبودية والانفلات» وليس «الحرية والعبودية»؛ فقد كان عامة الناس هم «المروجون للانفلات»، في حين كان النبلاء هم «المروجون للعبودية»، وبالتالي كانت المدينة المغلوبة على أمرها تترنح «من النموذج الاستبدادي إلى المنفلت، ومن المنفلت إلى الاستبدادي»، وكان كل طرف يشكل عدوا قويا بالنسبة للآخر، الأمر الذي جعل أيا منهما لا يتمكن من فرض الاستقرار في المدينة لأي فترة من الزمن (1187).
Unknown page