Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
هذا التحليل يقود مكيافيللي إلى معضلة؛ فهو من ناحية يؤكد دائما على أن «طبيعة الإنسان طموحة ومتشككة» إلى حد أن معظم الناس لن «يفعلوا أبدا أي شيء جيد إلا رغما عن إرادتهم» (201، 257)، لكنه من ناحية أخرى يصر على أن السماح للبشر بأن «يرتقوا من طموح إلى آخر»، سرعان ما يتسبب في تمزق مدينتهم «إربا» وضياع أي فرصة لها في أن تصبح عظيمة (290). والسبب في ذلك أنه مع كون الحفاظ على الحرية شرطا ضروريا لتحقيق العظمة، دائما ما يكون نمو الفساد فتاكا بالنسبة للحرية، وما إن يبدأ الأفراد الأنانيون أو أصحاب المصالح الطائفية يكسبون التأييد، حتى تبدأ رغبة الشعب في التشريع «باسم الحرية» تتآكل بالتوازي مع ذلك ، وتبدأ الفصائل تتولى مقاليد الأمور و«يحل الاستبداد سريعا» محل الحرية (282). وبناء على ذلك فإن الفساد حينما يدخل جسد عامة المواطنين ويتملك منه تماما، فإنه يجعلهم لا «يستطيعون أن يعيشوا أحرارا ولو لفترة قصيرة، أو بالأحرى لا يعيشون أحرارا أبدا» (235، قارن 240).
وهكذا فإن معضلة مكيافيللي تتمثل فيما يلي: كيف يمكن غرس صفة «القوة» في جسد عامة المواطنين، الذي لا يتمتع طبيعيا بهذه الصفة؟ وكيف يمكن منع المواطنين من الانزلاق إلى الفساد، وكيف يمكن حملهم على الاحتفاظ باهتمامهم بالصالح العام على مدى فترة طويلة بما فيه الكفاية لتحقيق العظمة المدنية؟ حل هذه المعضلة هو ما تركز عليه بقية «المطارحات».
القوانين والقيادة
يعتقد مكيافيللي أن المعضلة التي كشف عنها يمكن الالتفاف عليها بعض الشيء بدلا من الاضطرار إلى التغلب عليها مباشرة؛ ذلك لأنه يسلم بأننا في حين لا يمكن أن نتوقع من عامة المواطنين أن يتمتعوا بالكثير من «القوة» الطبيعية، فليس من الكثير علينا أن نأمل في أن تتمتع مدينة من وقت لآخر بحسن «الحظ» الذي يجعلها تجد زعيما تظهر أفعاله - كأفعال أي أب مؤسس عظيم - صفة «القوة» الطبيعية بدرجة عالية (420).
ويعتقد أن مثل هؤلاء المواطنين النبلاء حقا يلعبون دورا لا غنى عنه في إبقاء مدنهم على الطريق إلى المجد. ويذهب مكيافيللي إلى أن هذه النماذج الفردية للقوة لو كانت «ظهرت كل عشر سنوات على الأقل» على مدى تاريخ روما، لكانت «النتيجة الحتمية لذلك» هي عدم «ظهور الفساد بالمدينة قط» (421). بل ويعلن أن «أي مجتمع إذا كان محظوظا بما فيه الكفاية»، بحيث يجد زعيما بهذه الشخصية في كل جيل «يصلح قوانين هذا المجتمع ولا يكتفي بوقفه عن التدهور، وإنما يعيده إلى سابق عهده»، فسوف تكون نتيجة ذلك تحقق معجزة الجمهورية «الخالدة»؛ أي الجسد السياسي القادر على الإفلات من الفناء (481).
كيف يمكن لدفعات «القوة» الشخصية هذه أن تسهم في تحقيق المدينة منتهى غاياتها؟ إن محاولة الإجابة على هذا السؤال تشغل مكيافيللي طوال «المطارحة» الثالثة، التي تهدف إلى توضيح «الطريقة التي أسهمت بها أفعال الأفراد في زيادة عظمة الرومان، وكيف أحدثت كثيرا من التأثيرات الجيدة في تلك المدينة» (423).
من الواضح أن مكيافيللي في بحثه هذه النقطة لا يزال شديد القرب من روح كتاب «الأمير»؛ لذا من غير المستغرب أن نجده يدرج في هذا القسم الأخير من «المطارحات» عددا كبيرا من الإشارات المرجعية - نحو اثنتي عشرة إشارة مرجعية في أقل من مائة صفحة - لمحتوى كتابه السابق. يضاف إلى ذلك أنه يقرر، كما فعل في كتاب «الأمير»، أن هناك طريقتين مختلفتين يستطيع أي رجل دولة أو قائد عسكري فائق «القوة» أن يحقق من خلالهما أشياء عظيمة؛ أولاهما هي تأثيره على غيره من المواطنين الأقل شأنا. يبدأ مكيافيللي بافتراض أن هذا الأمر يمكن أن يحدث في بعض الأحيان تأثيرا ملهما إلهاما مباشرا؛ لأن «هؤلاء الرجال ذوو سمعة ممتازة ويشكلون قدوة بالغة التأثير بدرجة تجعل الرجال الجيدين يرغبون في الاقتداء بهم، وتجعل الرجال الأشرار يستحون من أن يحيوا حياة تتناقض مع حياتهم» (421). إلا أن الحجة الأساسية التي يطرحها هي أن «قوة» القائد البارز سوف تتمثل دائما، في جزء منها، في شكل قدرة على إضفاء نفس هذه الصفة الضرورية على أتباعه، رغم أنها قد لا تكون من بين الصفات الطبيعية التي يتمتعون بها. والافتراض الرئيسي الذي يطرحه مكيافيللي إذ يناقش كيفية عمل هذا الشكل من أشكال التأثير، هو نفسه الذي طرحه في كتاب «الأمير»، ثم لاحقا في الكتاب الرابع من «فن الحرب»، ومفاده أن أكثر الوسائل فعالية لحمل الناس على التصرف «بقوة» تكون من خلال تخويفهم من عواقب التصرف بأي طريقة أخرى تخالف ذلك. وقد أشاد في هذا الصدد بالقائد حنبعل؛ لأنه أدرك ضرورة بث الخوف في نفوس أفراد قواته «من خلال صفاته الشخصية»، كي يبقيهم «متحدين ومسالمين طائعين» (479). ويدخر إعجابه الأكبر للقائد مانليوس تركواتوس الذي مكنته «نفسه القوية» وصرامته التي كانت مضربا للمثل، من أن «يتخذ قرارات قوية»، ويعيد مواطنيه مجددا إلى حالة «القوة» الأصيلة التي كانوا قد بدءوا في التراجع عنها (480-481).
الطريقة الثانية التي يساهم بها الأفراد المميزون في تحقيق المجد المدني أكثر آنية؛ إذ يعتقد مكيافيللي أن ما يتمتعون به من «قوة» بالغة تساعد في حد ذاتها على تجنب الفساد والانهيار، ومن ثم فإن أحد اهتماماته الرئيسية في «المطارحة» الثالثة تتمثل في توضيح ماهية الجوانب الخاصة للقيادة «القوية»، التي من شأنها إحداث هذه النتيجة المفيدة بأقصى قدر من السهولة. وهو يبدأ بطرح إجابته في الفصل الثالث والعشرين، الذي يستعرض فيه سيرة كاميلوس، «أكثر القادة العسكريين الرومان حكمة على الإطلاق» (462)، والصفات التي جعلت كاميلوس مميزا على نحو استثنائي، ومكنته من تحقيق العديد من «الأمور الرائعة» كانت «حرصه وحصافته، وشجاعته البالغة»، وقبل كل هذا «أسلوبه الممتاز في إدارة الجيوش وقيادتها» (484، 498). بعد ذلك يخصص مكيافيللي سلسلة من الفصول ليقدم فيها تناولا أشمل لهذا الموضوع؛ فهو أولا يذهب إلى الاعتقاد بأن على عظماء القادة المدنيين أن يعرفوا كيف يكسرون شوكة الحاسد؛ «لأن الحسد في كثير من الحالات يمنع الرجال» من اكتساب «السلطة الضرورية في الأمور ذات الأهمية» (495-496)، علاوة على أنهم بحاجة إلى أن يكونوا رجالا لديهم مستوى عال من الشجاعة الشخصية، لا سيما إذا ما استدعت الحاجة أن يعملوا في المجال العسكري، وفي هذه الحالة يجب أن يكونوا على استعداد - بحسب قول ليفيوس - «لإبداء الفعالية في أحمى وطيس للمعركة» (515)، وعليهم أيضا أن يتمتعوا بدرجة عالية من حسن التدبير السياسي، القائم على الدراية بالتاريخ القديم والشئون المعاصرة على حد سواء (521-522). وأخيرا عليهم أن يتصفوا بأعلى درجات الحيطة والحذر، بحيث لا يكونون عرضة لأن يقعوا فريسة لاستراتيجيات أعدائهم المخادعة (526).
من خلال هذا النقاش يتضح أن مصير مدينة فلورنسا، مسقط رأس مكيافيللي، لم يبعد قيد أنملة عن أفكاره؛ فكلما يستشهد بمظهر ضروري من مظاهر القيادة «القوية»، يتوقف ليشير إلى أن انحدار الجمهورية الفلورنسية وانهيارها المخزي عام 1512 كانا راجعين في جزء كبير منهما إلى عدم الاهتمام بما فيه الكفاية بهذه الصفة الحاسمة؛ فالزعيم «القوي» بحاجة لأن يعرف كيف يتعامل مع الحسود. ولم يتمكن سافونارولا ولا سوديريني من «التغلب على الحسد»، ونتيجة لذلك «سقط كلاهما » (497). والزعيم «القوي» يجب أن يكون مستعدا لأن يستفيد من دروس التاريخ، لكن الفلورنسيين الذين كانوا يستطيعون بكل سهولة «القراءة عن عادات البدائيين القدامى أو تعلمها»، لم يقدموا على أي محاولة لفعل ذلك فسهل خداعهم ونهبهم (522). والزعيم «القوي» ينبغي له أن يكون رجلا حذرا حصيفا، لكن حكام فلورنسا أبدوا سذاجة في مواجهة الغدر إلى حد أنهم - كما حدث في الحرب ضد بيزا - جلبوا الخزي الشديد على الجمهورية (527). بهذا الاتهام اللاذع، يختتم مكيافيللي «المطارحة» الثالثة.
بالعودة إلى المعضلة التي بدأ مكيافيللي بطرحها، يتضح أن حجج «المطارحة» الثالثة تترك هذه المعضلة بلا حل؛ إذ رغم أنه شرح كيف يمكن حمل المواطنين العاديين على التحلي بصفة «القوة» من خلال نموذج القيادة العظيمة، فإنه قد اعترف أيضا أن ظهور زعماء عظام دائما ما يتوقف تماما على حسن «الحظ»، ومن ثم لا يشكل وسيلة يمكن الاعتماد عليها لتمكين أي مدينة من بلوغ المجد؛ لذا يبقى السؤال الأساسي هو: كيف يستطيع عامة البشر - الذين دائما ما سيكونون ميالين لأن يسمحوا لأنفسهم بأن تفسد بفعل الطموح أو الكسل - أن يغرسوا في أنفسهم صفة «القوة»، ويحافظوا عليها لفترة طويلة بما يكفي لأن يضمنوا تحقيق المجد المدني؟
Unknown page