Mabahith Cilmiyya Wa Ijtimaciyya
مباحث علمية واجتماعية
Genres
وذاك بوصفه أبدع حقيقة في إيراده عدوه أشنع مورد، حيث يقول:
تحوم عليه عقبان المنايا
وتحجل حوله غربان بين
فوصفها كما رآها في حقيقة حالها تأكل منه حتى تشبع، وتحجل حوله حتى تجوع، ونهمها لا يدعها تفارقه. ولم يزل هذا شأن الإنسان حتى في انضمامه أسرا وقبائل وأمما تربطه بعضه ببعض صلة الرحم فالمنبت فالمصلحة.
وما انقضاض الإسكندر المكدوني بجحافله على الشرق، ونابليون على الغرب، وأنيبال في اقتحامه الأهوال، وقطعه الجبال، وما نهم كسرى في مجده، وتعسف نيرون في ظلمه؛ عن ضيق في الأرض أو شظف في العيش، وإنما هي مطامع أفراد ضاق بنفوسهم فسيح الغبراء، حتى لو افتتحوها لوقفوا يفكرون في: كيف أنهم يفتتحون السماء؟
ملوك سودتهم نفوسهم، وهونت عليهم ركوب الأهوال واقتحام المخاطر، فاندفعوا ورءوسهم على أكفهم مقامرين غير هيابين، وساعدهم جهل الجماهير فسادوا عليهم، ورموا بهم من كل حالق، فاندفعوا يدفعون بأرواحهم ثمن مجد سواهم، يحصدهم الموت بمنجله، وملوكهم يتمتعون بثمار فوزهم، ويرفعون على جثثهم قباب مجدهم. هكذا كان شأن الملوك في كل العصور، من كل عصامي جبار، إلى كل عظامي بليد. يوم كان الملوك كل شيء، وكانت الأمم لا شيء؛ لا غرو إذا كانوا كل حين في مطمع، وكل يوم في حرب. وكم أثاروا حروبا هدرت بها دماء الرجال، ورملت النساء، ويتمت الأطفال، لقضاء شهوة بهيمية. وحمر الناس يظنون أنهم يقضون واجبا عليهم.
ما أرفع الإنسان إذا عز، وما أدناه إذا ذل! ذاك يناصب آلهته العدوان، وهذا ينحط إلى أن يحاكي الحيوان. وما زال ذلك إلى أن انقضى زمن الخاصة أو تداعى، وقامت سيادة العامة أو كادت، فتنبهت في الأمم عاطفة المصلحة، تجمعهم فيها تارة جامعة الأديان، وطورا جامعة الأوطان، وأثاروا لأجلهما حروبا تشيب لها الولدان. وقد ضعفت تلك اليوم كثيرا في مجامع الأمم الراقية، ولكن جامعة الأوطان ما زالت عزيزة الجانب، يتذرعون بها إلى إثارة الفتن بين الأمم، وحملها على تقتيل بعضها بعضا. على أنه كلما ارتقى الناس قلت الحروب، وزاد الحذر منها بزيادة معداتها؛ إذ ليس أمنع للحرب من الاستعداد للحرب؛ ولذلك قل الخوف من الحروب بين الأمم المنيعة. وكلما ارتقى الإنسان أدرك أن التساهل والتسامح أدعى لمصلحة العمران، وأن الحياة أغلى ثمنا من أن تضحى على مذبح التوحش والجهل. فإن لم يكن هذا السبب الأخير هو الذي يصد الدول عن الاشتباك في حرب نراها تبرق لها وترعد اليوم، فلا شك أن الذي يصرفها عنها خوفها مما لكل واحدة منها من الحول والطول، فليس من أمة من أمم أوروبا الراقية اليوم ترضى بأن تضرم فيما بينها حربا، ليست الحروب الماضية بالنسبة إليها إلا كالألعاب النارية التي تطلق اليوم في الأعياد، وكل هذا التهديد والوعيد ليس إلا دعوة لاجتماع تتوازن فيه مصالح الجميع، وسينتهي عما قليل كغيوم الصيف تنحل بالندى.
2
المقالة الأربعون
أ ب ت ث
Unknown page