وهذه الفتاة الناعمة الغضة التي لا تلائم هذه الدار البائسة الخشنة، تعيش بين أبويها وأخويها عيشة صامتة أو كالصامتة، ساكنة أو كالساكنة، مقبلة في أكثر الوقت على مغزلها تديره في أناة ورفق ودعة، فإذا كان موسم الحصاد خرجت مع أترابها من بنات القرية إلى الحقول فصيفت - كما يقول أهل الريف المصري - مع المصيفات وعادت مع الأصيل إلى أهلها بما التقطت من الحب المنتثر في الحقول، وإذا كان موسم القطن خرجت مع أترابها من بنات القرية، فشاركت في جني القطن، وعادت إلى أهلها مع الأصيل بما يتاح لها من أجر ضئيل، وقد رآها نعيم فيما يظهر مصيفة مع المصيفات أو جانية للقطن مع الجانيات، فراقه منظرها الرائع في ثيابها الرثة، فلما أطال النظر إليها اشتد إعجابه بها ثم ميله إليها، فعاود المرور بالجماعة التي كانت تعمل معها، ثم حاول الوقوف إلى هذه الجماعة، ثم حاول الحديث اليسير إلى هؤلاء العذارى، وكان من شأن هذا كله أن يزيد إعجابه بهذه الفتاة وميله إليها وطمعه فيها، وكان لحظ الفتاة وصوتها هما اللذان وقعا من نفس نعيم أغرب الوقع وأعمقه وأعظمه في نفسه أثرا، كتب في دفتر يومياته يقول: «أوشك أن أظن بنفسي الجنون؛ فإني لا أنطلق في الحقول ولا أتنزه في الحديقة ولا أخلو إلى نفسي في غرفتي إلا رأيت عينا ساحرة فاترة تنظر إلي في أناة وخفر، فتنفذ إلى أعماق نفسي وتلذع قلبي لذعا أليما، وأنا لا أكاد أخلو إلى نفسي في غرفتي أو خارج غرفتي، في القصر أو بعيدا عن القصر إلا سمعت صوت هذه الفتاة يبلغ أذني حلوا رقيقا رفيقا، ثم يصل إلى نفسي فيحدث فيها نشوة لا أشبهها بالطرب الذي تحدثه الموسيقى، وإنما أشبهها بالنشوة التي تحدثها الخمر، لقد استأثرت هذه الفتاة بنفسي، وما أرى أن الأمر سينتهي بينها وبيني كما تعودت الأمور أن تنتهي بيني وبين أترابها من حسان الريف.»
8
القراء يعفونني دون شك من أن أصور لهم ما كان بين نعيم وخديجة من قرب وبعد، ومن دنو ونأي، ومن هذه المحاولات الكثيرة المعقدة التي ينسج الحب خيوطها بين المحبين في أناة ومهل، ثم في اندفاع وعجل، ثم يأخذهم فيها كما تؤخذ الطير فيما ينصب لها من الشراك.
القراء يعفونني من تصوير هذا كله؛ فهم يعرفونه حق المعرفة، يقرءونه في القصص وفي شعر الشعراء، ويجده كثير منهم في أنفسهم ويسمعونه فيما يدار عليهم من الحديث، وهم بعد هذا يستطيعون أن يصوروا نشأة هذا الحب بين خديجة ونعيم كما يشاءون، لا جناح عليهم فيما يبتكرون من صور وما يخترعون من أحداث، فكل هذا لا يعنيني ولا يعني القصة في كثير أو قليل، وإنما الذي يعنيني ويعني القصة ويعني القراء هو أن هذين الفتيين قد وقعا في شرك من أشراك الحب، فاضطربا فيه قليلا أو كثيرا يحاولان أن يخلصا منه وأن يعودا إلى الأمن والحرية وفراغ البال، ولكن إفلات العاشقين من أشراك الحب ليس أقل عسرا من إفلات الطير من أشراكها حين تقع فيها، فقد كان إذن ما لم يكن بد من حدوثه، ونظر الفتى المترف الغني القوي الموفور فإذا هو أسير لخديجة بنت محمود الإسكاف.
ونظرت الفتاة البائسة اليائسة المطمئنة إلى بؤسها ويأسها، فإذا هي مولهة بحب هذا الفتى، الفتى المترف الغني القوي الموفور، وكان الفتى يخلو إلى نفسه فيلقي نظرة من أعلى ترفه وشرفه وغناه إلى بؤس خديجة ويأسها وإعدامها، فيأخذه شيء يشبه الدوار، كيف هبط من أعلى عليين إلى أسفل سافلين؟! وكانت الفتاة ترفع بصرها من أعماق يأسها وبؤسها وإعدامها في دارها تلك الحقيرة الفقيرة، إلى هذا القصر الشاهق على هذه الربوة الشامخة، فيأخذها شيء يشبه الدوار حين تفكر في أن الحب قد وثب بها إلى ذلك الفتى المترف الغني القوي الموفور، ولكن الناس جميعا يعلمون أن الحب لا يحتقر شيئا كما يحتقر الرفعة والضعة، ولا يسخر من شيء كما يسخر من تفاوت المراتب والطبقات، وهو قد هبط بالفتى إلى الفتاة أو صعد بالفتاة إلى الفتى! لا أدري ولكنه جعل كلا منهما لصاحبه سيدا وعبدا، وقد انتهى أمر هذا الحب إلى أبوي نعيم، فابتسما له أول الأمر، لم يريا فيه إلا لونا من عبث الشباب وسخرا منه بعد ذلك، لم يريا فيه إلا شيئا من الجموح في العبث، وضاقا به بعد ذلك، رأيا فيه غلوا من الفتى في هذا الجموح وصارفا له عما يليق بمثله من الطموح إلى العظيم من الأمر، وأخذا ينصحان للفتى في رفق، ثم في عنف، ثم في إلحاح، ولكن أبا الفتى غلا في إلحاحه وسخطه حتى انتهى الأمر إلى ما علمت، وانتهى أمر هذا الحب إلى أم خديجة، فابتسمت له ابتساما مرا، وفرحت به فرحا حزينا، وهمت أن تكف ابنتها، ولكن نصحها لم يغن شيئا، وهمت أن تكتم الأمر على الشيخ الإسكاف ولكن لسان النساء لا يحب أن يستقر في أفواههن، وهم الشيخان أن يكفا الفتاة، فلما لم يبلغ شيئا تواصيا بكتمان الأمر على ابنهما الفتي لأنه كان عنيفا مخوفا، والأمر ينتهي إلى غايته، وهذا نعيم قد فتن بخديجة إلى أبعد حدود الفتنة؛ فهو يعدها ويمنيها، وهو يرغبها ويغريها، وهو يختطفها آخر الأمر إن صح أن يكون سفرها إلى العاصمة اختطافا؛ فهي لم تكد تدعى إلى السفر حتى استجابت للدعاء مسرعة واستعدت له متهالكة.
وارتفع الضحى ذات يوم فلم تر الأسرة خديجة، وتقدم النهار فلم تعرف من أنبائها شيئا، وأقبل الأصيل فلم تعد معه إلى الدار، وتقدم الليل فلم تعد، وإنما عاد أخوها أحمد ثائرا يكظم ثورته، وفائرا يكتم فورته. أقبل متجهما فلم يقل كلمة لأحد، ولم يلق نظرة على أحد، وإنما ألقى أدوات عمله في مكانها من الدار، واندفع إلى حجرة أبويه فأخذ من عمود الخبز شيئا التهمه وهو قائم لا يقول شيئا ولا يرد على أحد حديثا، فلما التهم ما كان في يده من الخبز ألقى نظرة على ما حوله ومن حوله، ثم أدار ظهره ومضى صامتا لا يقول شيئا ولا يلوي على شيء. قالت محبوبة لزوجها الحذاء في صوت مرتعد حزين: ما باله؟ وما الذي عرض له من الخطب؟ قال الشيخ في صوت هادئ ثابت يشيع فيه الحزن والغضب معا: افتقد أخته فلم يجدها، وترامى إليه بعض ما طوينا عنه من الحديث. قالت محبوبة: وإذن؟ قال الشيخ: وإذن فهو يسعى في أثر أخته، وما أدري! لعله لا يعود.
والناس يتمنون ويسرفون في التمني، والأقدار تعبث بهم وبما يتمنون؛ ذلك أن الناس لا يعرفون إلا أنفسهم وقليلا مما يحيط بهم من الظروف؛ فهم يدبرون ويقدرون في دائرة ضيقة لا تكاد تتجاوزهم إلا قليلا، وآية ذلك أن نعيما كان قد دبر أمره فأحسن تدبيره، وقدر خطته فأحسن تقديرها. لقد أحب الفتاة حبا لم يجرب مثله من قبل على كثرة ما جرب من العبث واللهو والحب أيضا؛ فهو مصمم على أن يحدث حدثا ذا خطر وهو المترف الغني القوي الموفور، سيهبط إلى هذه الفتاة اليائسة البائسة الفقيرة الحقيرة فيتخذها لنفسه زوجا ويقسم بينها وبينه ما أتيح له من ترف وشرف وقوة وثراء، وهو قد قدر غضب أبويه وعرف كيف يستعد للتخلص من أعقاب هذا الغضب، وهو قد قدر ما بينه وبين الفتاة من اختلاف المنزلة وبعد الأمد، وعرف كيف يستعد لإلغاء هذه المسافة البعيدة، أليس قد اختطف الفتاة فباعد بينها وبين قريتها وبيئتها وأهلها ليخلقها في العاصمة خلقا جديدا؟! لقد دبر وقدر وأحسن التدبير والتقدير، واطمأن إلى أنه بالغ بحبه ما أراد له من الأمن والثقة، ومن الدعة والهدوء، ولكنه لم ينس إلا شيئا واحدا، وهو أن لهذه الفتاة أخا في مثل سنه ليس مترفا ولا غنيا ولا قويا ولا موفورا، وهو من أجل ذلك حاقد حانق، قد ملأ السخط قلبه وملك الغيظ نفسه، فرآه الناس إنسانا مثلهم يعدو ويروح ويعمل في الحرث والزرع، ورأته الطبيعة شيطانا مريدا ينتظر أن تتاح له الفرصة ليملأ الأرض من حوله شرا ونكرا، وقد أتيحت له الفرصة؛ فهذه أخته التي كان يحبها وحدها من دون الناس ويؤثرها بقلبه كله ونفسه كلها، قد غوت وهوت، أغواها ذلك الفتى المترف الغني القوي الموفور، وإذن ...
وإذن ففي نفس الوقت الذي انصرف فيه نعيم عن الشاعر فرحا حزينا ومسرورا كئيبا، ونهض الشاعر فيه مسرعا يرقى إلى القصر ليلقى صاحبه في مكتبه ذاك، في نفس هذا الوقت وقبل أن يصل الشاعر إلى صاحب القصر يستفيض في القرية الحقيرة الفقيرة البائسة نبأ يملؤها خوفا وروعا؛ فقد لحق أحمد بأخته في العاصمة وقتلها وأسلم نفسه للشرطي، معترفا بأنه اقترف هذا الإثم دفاعا عن عرضه المكلوم.
فلندع القرية تتسامع بهذا النبأ وتتبادل الحديث في تفسيره وتأويله، ولندع الأبوين وقد أخذتهما الصاعقة حين أتاهما هذا النبأ، ولنعد مسرعين فنصعد إلى الربوة من أقصر الطرق المؤدية إليها، فسنرى الشاعر قد ارتقى سلم القصر، ولم يكد يبلغ البهو الأول من أبهائه حتى رأى نفسه في مرآة هناك، ورأى أنه معتدل القامة يمشي على اثنتين، فما أسرع ما ينحني على العصا، وما أسرع ما يدور في رأسه هذا البيت كأنه يسمعه من صاحب القصر:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
Unknown page