قال الشاعر مروعا: حسبك، حسبك! لست سيدا وليست أمة، وإنما امتزت عليها بثروتك ومكانك الاجتماعي، فأسرفت على نفسك وأسرفت عليها؛ غررتها فاغترت لك، وما كان لك أن تخدعها، وما كان لها أن تنخدع، قال نعيم: ولكني خدعتها فانخدعت.
قال الشاعر: فأنت تجني الآن ثمرة هذا الظلم.
قال نعيم: فإني أود لو أعلم أنكم لا تظلمون أهل القرية، ولا تعنفون بهم، ولا تشتطون عليهم، ولا تظلمونهم ألوانا أخرى من الظلم ليست أقل من هذا الإثم الذي اقترفته خطرا، ولا أهون منه شأنا، ولا أضعف منه تأثيرا في حياتهم كلها.
إنكم تستذلونهم وتستغلونهم، وتضطرونهم إلى البؤس وتفرضون عليهم الحرمان، تكلفونهم ما تكلفونهم من ضروب الجهد والعناء، حتى إذا آتى جهدهم ثمره وانتهى عناؤهم إلى نتيجته، أخذتم خير ما تثمر الأرض على أيديهم فآثرتم به أنفسكم من دونهم واستمتعتم بنعيمه، وهم ينظرون إليكم من قريتهم تلك التي توشك أن تكون قطعة من الجحيم، وأنتم لا ترون بهذا بأسا، ولا تجدون في أنفسكم منه حرجا، ولو استطعتم أن تزدادوا ظلما لهم وإثقالا عليهم لما تورعتم عن ذلك ولا زهدتم فيه، ولكنكم تعصرونهم حتى لا تتركوا فيهم معتصرا، ثم لا تجدون في أنفسكم إلا الرضا، ولا تحسون في قلوبكم إلا الطمأنينة. تقبلون على هذا مصبحين، وتقبلون على هذا ممسين، وتنعمون بثمرة هذا بين الصباح والمساء، وتنامون هادئين غير حافلين بهذا بين المساء والصباح.
وددت لو أعلم أن أهل القرية يجدون من اللذة في استثمار الأرض لكم ورفع ثمرات الأرض إليكم، واضطرارهم إلى الحرمان والبؤس، مثل ما وجدت هذه الفتاة من النعيم والرضا حين خدعتها فانخدعت، وحين أغريتها فاستجابت للإغراء.
إني يا سيدي لا أجحد أني تجاوزت حدود الخلق والدين، واقترفت إثما من الحق علي أن أمحو آثاره، ولكني في سبيل هذا كله لم أظلم ضحيتي وحدها، وإنما ظلمت معها نفسي، واعترفت بهذا الظلم فأصلحت منه ما استطعت إصلاحه؛ قدمت إلى هذه الفتاة كثيرا من الطرف وفنونا من الهدايا، رفعتها إلى نفسي أو نزلت إليها، عشنا حينا من الدهر عيشة سواء، لم أكن سيدا ولم تكن أمة، وإنما كنت عاشقا خليلا وكانت عاشقة خليلة، وأنت شاعر يا سيدي تعرف أن الحب يغير الأوضاع بين المحبين، فيجعل السيد عبدا والعبد سيدا.
حدثني عما تقدمون من الخير والبر إلى أهل هذه القرية حين تسخرونهم من غير رفق ولا لين، وفي غير محبة ولا مودة، وفي غير إنصاف ولا عدل لمنافعكم، وحين تستأثرون من دونهم بثمرة ما يبذلون من جهد، وما يحتملون من عناء.
إن أرض القرية لخصبة تنبت الغنى، ولكنها تنبت الغنى لكم، ولا تنبت لأهلها إلا فقرا وبؤسا وحرمانا، وإنكم لتعلمون ذلك وتقبلون عليه عن تعمد له ورغبة فيه، لا تتحرجون ولا يخطر لكم أن تتحرجوا؛ فإن لامكم في ذلك لائم أو عابكم عليه عائب دعوتم بالويل والثبور وعظائم الأمور، ونظرتم إلى أنفسكم كأنكم الضحايا، وإلى لائميكم والعائبين عليكم كأنهم الأعداء المغيرون، فما لكم لا تحلون الحلال كله ولا تحرمون الحرام كله، وإنما تتبعون فيما تحلون وما تحرمون أهواءكم ومنافعكم لا ما أحل الله ولا ما حرم؟!
ثم حدثني أواثق أنت بأنكم لا تستحلون لأنفسكم حين تسنح لكم الفرص ما تحرمون على غيركم؟ أواثق أنت بأن أبي إنما يسخط علي عيرة على الحق وغضبا للحرمات ورعاية للخلق والدين؟ أما أنا فما أرى أنه يسخط علي إلا ضنا بي أن أنزل إلى مكانة دون مكانتي، وخوفا علي أن أتجاوز بهذا الحب طور المجون واللهو وأرتفع به إلى طور آخر يخشاه كل الخشية ويأباه أشد الإباء، ولو قد حدثته بأني أريد أن أتخذ هذه الفتاة لي زوجا لجن جنونه وضل ضلاله، وثق بأنه لم يبلغ من الغضب ما بلغ إلا أنه أشفق أن أتحدث إليه هذا الحديث، وآية ذلك أنه لم يلمني ولن يلومني حين رآني وحين يراني أداعب وألاعب فتيات من أسر ممتازة كأسرتنا الممتازة. إنه يراني لذلك كفؤا، ويرى هذه الأسر موضعا لصهره؛ فليس عليه بأس أن رآني أقع في شرك هذه الفتاة أو تلك، ولعله يسعى ويدبر الأمر لأقع في شرك هذه الفتاة أو تلك. أسرة ممتازة تصهر إلى أسرة ممتازة، ومال يجمع إلى مال، وفتى كريم يقترن بفتاة كريمة، كل هذه أمور ترضون عنها وتسعون إليها، تنعمون إن انتهت إلى الخير، ولا تبتئسون إن انتهت إلى الشر، من حق الشباب أن يمضي في طريقه التي قسمت له، ولكنكم تمايزون بين الطرق التي قسمت للشباب، فللأغنياء منهم طريق، وللفقراء منهم طريق، وللبائسين منهم طرق لا تحصى.
ثم أطرق الفتى إطراقة طويلة لم يكد الشاعر يتنبه إليها؛ لأنه كان مغرقا في الذهول منذ اندفع الفتى في حديثه هذا الجريء العنيف الطويل، ورفع الفتى رأسه بعد حين باسما للشاعر وهو يقول: عد إلى نفسك أو أعد نفسك إليك؛ فليس في الأمر ما يدعو إلى هذا الوجوم ، إن الأمر أيسر جدا مما تظن، إني خدعت خديجة ابنة الإسكاف فانخدعت، ودعوتها فاستجابت، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لما سخط أبي ولا ثار، ولكان من اليسير أن نرضي الفتاة ببعض الهدايا، وأن نرضي أباها ببعض البر أو ببعض الابتسام، وكان من اليسير أن أسافر فأطيل الغيبة فأنسى أنا وتنسى هي، ويلتمس لها الزوج من طبقتها هنا أو هناك، ويلقي الستار على مأساة تحدث الآلاف من أمثالها في كل عام، ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، وإنما وقعت الفتاة من نفسي موقعا خاصا، واستقر حبها في قلبي استقرارا مكينا؛ فلست أرى من الاقتران بها بدا. ولم أتحدث بذلك إلى أبي، ولكنه أحس ميلي إليه وتفكيري فيه ... نهاني عن هذه الفتاة فلم أنته، وأغراني بغيرها من بنات طبقتنا فلم يكن لإغرائه في نفسي صدى، ثم أنذر فلم يغن النذير، وحذر فلم ينفع التحذير، فقال كلمته التي قالها، وفعل فعلته التي فعلها حين أخرجه الغضب عن طور العقلاء.
Unknown page